* هذا المقال من خواطر د. سامي القباني، وينشر للمرة الأولى في الذكرى الخامسة لرحيله.
لا يختلف اثنان في فضل العلم والعلماء، لكن هل هناك درجات في العلم يفضل ألا يصل الإنسان إليها؟
لنفرض جدلا أن لديك مرآةً سحرية يمكنها أن تجيبك إجابة صحيحة عن كل سؤال غيبي يخطر ببالك، ولنفترض أنك قلق بشأن مستقبلك الصحي وما يخبئه لك القدر من مفاجآت صحية غير سارة، فهل تقدم على استجواب مرآتك السحرية؟ ثم إذا طابقت توقعاتها شر ما تتوقع، فهل تقضي بقية عمرك وأنت تتجنب وقوع المصائب التي تكهنت بها المرآة وتسعى جاهداً لإبطالها؟ أم أنك من صنف: ابعد عن الشر وغنِ له، من البشر الذين لا يرغبون في سماع أي خبر يثير قلقهم أو يعكر عليهم، ومن صنف الذين يرضون بقسمتهم في هذه الدنيا، حلوها ومرها فتتجاهل مرآتك السحرية بل قد تحطمها لتتخلص من كل إغراء قد يدفعك إلى الحوار معها في المستقبل؟
طرحت على نفسي هذا السؤال الافتراضي وأنا أقرأ بعض التفاصيل عما صار يدعى في الأوساط الطبية مورّث جين الثدي breast gene.
ولكي نتعرف إلى مورّث الثدي لا بد أن نعود إلى أوائل التسعينيات من القرن الفائت، حينما قررت الحكومة الأميركية كشف وظيفة كل من 25 مورثا يحملها كل منا في خلايا جسمه.
والمورثات هي جزيئيات من الأحماض النووية متناهية في الصغر يرثها كل منا من أبويه، وتحدد شكل أعضائنا ووظيفتها، بحيث تشبه صفات أحد أبوينا أو كليهما، وهي معرضة في حالات نادرة لعطب طفرة mutation يمكن أن ينتقل إلى الذرية أيضا عن طريق الوراثة.
اكتشف العلماء من بين آلاف الموروثات، اثنتين مسؤولتين عن ضبط تكاثر الخلايا ومنعها من الانقسام السريع والعشوائي (وهو ما يحدث في مرض السرطان)، دعوهما Brac A1 Brac A2، كما اكتشفوا أن النساء اللواتي يحملن طفرة في أحد هذين الموروثين تعطل وظيفتهما الحيوية، معرضات للإصابة بسرطان الثدي بنسبة تفوق أضعاف النسبة المتوقعة لدى النساء اللاتي لا يحملن هذه الطفرة، كما أنهن معرضات أكثر من المعدل قليلا للإصابة بسرطان المبيض.
وقد صار بالإمكان اليوم إجراء فحص دموي معقد في مختبرات خاصة للتحقق مما إذا كانت امرأة ما تحمل أحد المورثين المصاب بالطفرة، وبدأت المؤسسات الصحية تنصح بإجراء هذا الفحص لكل النسوة اللواتي أصيبت أمهاتهن (أو إحدى أخواتهن) بسرطان الثدي.
هنا لدى سناء خياران:
الأول: أن تتناسى الأمر وتعتبر أن نصيبها من الإصابة بالسرطان لا يختلف عن نصيب أكثرية غيرها من النساء.
والثاني: أن تجري الفحص الذي نصحت به لإزالة الشكوك العالقة في ذهنها.
ولنفترض أن سناء قررت إجراء الفحص ثم فوجئت بالفعل أنها تحمل المورث المريض ما يجعل احتمال إصابتها بمرض سرطان الثدي في مرحلة ما من حياتها يصل إلى 85% حسب آخر الإحصاءات.
والخيار الثاني أن تسعى سناء إلى إزالة الكابوس برمته فتعرض نفسها لعملية استئصال ثدييها بالكامل، ما سيسلبها جزءاً مهماً من أنوثتها ولن يحميها من احتمال تشكل سرطان المبيض في المستقبل.
لقد خطت العلوم الطبية في العقود الأخيرة خطوات متسارعة لم تخطها في تاريخ البشرية من قبل وما ينتظرنا من اكتشافات في المستقبل القريب أمر قد تعجز مخيلتنا عن تصوره... فمشروعات المورثات الإنسانية Human Genome Project ما زالت في أوائلها، والله وحده يعلم كم من الأمراض ستتبين للعلماء قابلية انتقالها بالوراثة مثل سرطان الثدي، وقدرتها على أن تسبب البلبلة والتعاسة لأصحابها..
ولا يقتصر الأمر على الموروثات، فهناك مثلاً الفحوص التي صارت تكشف وجود المرض الذي لا أمل من شفائه (مثل مرض الزهايمر Alzheimer’s)، سنوات قبل ظهور أعراضه.. فماذا يستطيع أحدنا أن يفعل إذا تبين بالفحص المخبري أنه مصاب بمثل هذا المرض ولا مفر له من خسارة قدراته الذهنية تدريجياً حتى يصبح عالة على أهله ومجتمعه؟
نسأل الله اللطف والقدرة على التكيف، روحيا وأخلاقيا، مع التطورات السريعة في علوم الطب كما في غيرها من العلوم حتى لا تكون سببا في شقائنا بل وفنائنا..
في إحد أساطير اليونان القديمة يقوم ملك جزيرة كريت الظالم مينوس Minos بسجن العالم ديدالس Didalus وابنه إيكارس Icarus في حصن شاهق.. ولكن العالم الذكي يصنع لنفسه ولابنه أربعة أجنحة من الخشب وريش النعام يلصقها على جسميهما بالشمع المذاب كي يهربا طائرين من نافذة الحصن المرتفع.
وبنصح ديدالس ابنه قبل أن يطيرا بألا يقترب كثيراً من الشمس (معقل إله آلهة الإغريق أبولو Apolo)، حيث تكمن أعلى درجات العلم، لئلا تذيب أشعة الشمس الشمع الذي يثبت الجناحين الصناعيين على جسمه..
غير أن إيكارس أخذته النشوة وهو يطير في الفضاء لأول مرة فراح يعلو ويعلو مقترباً من الشمس (مصدر العلوم)، ناسياً نصيحة أبيه، وهو ما أذاب الشمع عن جسمه وجعله يهوي إلى البحر ويلقى حتفه.
ترى ماذا عسانا أن نفعل ونحن نقترب من درجات العلم العليا؟ ماذا عسانا أن نفعل حتى لا يؤول مصيرنا إلى ما آل إليه مصير إيكارس؟
لنفرض جدلا أن لديك مرآةً سحرية يمكنها أن تجيبك إجابة صحيحة عن كل سؤال غيبي يخطر ببالك، ولنفترض أنك قلق بشأن مستقبلك الصحي وما يخبئه لك القدر من مفاجآت صحية غير سارة، فهل تقدم على استجواب مرآتك السحرية؟ ثم إذا طابقت توقعاتها شر ما تتوقع، فهل تقضي بقية عمرك وأنت تتجنب وقوع المصائب التي تكهنت بها المرآة وتسعى جاهداً لإبطالها؟ أم أنك من صنف: ابعد عن الشر وغنِ له، من البشر الذين لا يرغبون في سماع أي خبر يثير قلقهم أو يعكر عليهم، ومن صنف الذين يرضون بقسمتهم في هذه الدنيا، حلوها ومرها فتتجاهل مرآتك السحرية بل قد تحطمها لتتخلص من كل إغراء قد يدفعك إلى الحوار معها في المستقبل؟
طرحت على نفسي هذا السؤال الافتراضي وأنا أقرأ بعض التفاصيل عما صار يدعى في الأوساط الطبية مورّث جين الثدي breast gene.
ولكي نتعرف إلى مورّث الثدي لا بد أن نعود إلى أوائل التسعينيات من القرن الفائت، حينما قررت الحكومة الأميركية كشف وظيفة كل من 25 مورثا يحملها كل منا في خلايا جسمه.
والمورثات هي جزيئيات من الأحماض النووية متناهية في الصغر يرثها كل منا من أبويه، وتحدد شكل أعضائنا ووظيفتها، بحيث تشبه صفات أحد أبوينا أو كليهما، وهي معرضة في حالات نادرة لعطب طفرة mutation يمكن أن ينتقل إلى الذرية أيضا عن طريق الوراثة.
اكتشف العلماء من بين آلاف الموروثات، اثنتين مسؤولتين عن ضبط تكاثر الخلايا ومنعها من الانقسام السريع والعشوائي (وهو ما يحدث في مرض السرطان)، دعوهما Brac A1 Brac A2، كما اكتشفوا أن النساء اللواتي يحملن طفرة في أحد هذين الموروثين تعطل وظيفتهما الحيوية، معرضات للإصابة بسرطان الثدي بنسبة تفوق أضعاف النسبة المتوقعة لدى النساء اللاتي لا يحملن هذه الطفرة، كما أنهن معرضات أكثر من المعدل قليلا للإصابة بسرطان المبيض.
وقد صار بالإمكان اليوم إجراء فحص دموي معقد في مختبرات خاصة للتحقق مما إذا كانت امرأة ما تحمل أحد المورثين المصاب بالطفرة، وبدأت المؤسسات الصحية تنصح بإجراء هذا الفحص لكل النسوة اللواتي أصيبت أمهاتهن (أو إحدى أخواتهن) بسرطان الثدي.
ماذا يعني هذا كله من الناحية العملية؟
لنفترض أن سيدة في الخامسة والعشرين من العمر (ولنسمها سناء)، أصيبت والدتها بسرطان الثدي وتوفيت بسببه، ما أوقع سناء في حزن وكآبة شديدين، وفي الوقت ذاته جعلها تخاف من الوقوع فريسة المرض الذي قتل أمها.. ولنفترض أن سناء نصحت بالتحليل المخبري المكلف الذي يكشف إن كان سرطان أمها من النوع الوراثي (أي كانت هي معرضة للإصابة به أيضاً).هنا لدى سناء خياران:
الأول: أن تتناسى الأمر وتعتبر أن نصيبها من الإصابة بالسرطان لا يختلف عن نصيب أكثرية غيرها من النساء.
والثاني: أن تجري الفحص الذي نصحت به لإزالة الشكوك العالقة في ذهنها.
ولنفترض أن سناء قررت إجراء الفحص ثم فوجئت بالفعل أنها تحمل المورث المريض ما يجعل احتمال إصابتها بمرض سرطان الثدي في مرحلة ما من حياتها يصل إلى 85% حسب آخر الإحصاءات.
ماذا بوسعها أن تفعل الآن؟
هنا أمام سناء خياران أيضاً، أحلاهما مرّ، الأول أن تترقب وقوع الكارثة طوال عمرها وتعمل كل ما تستطيع لكشف المرض باكرا حتى يصبح احتمال شفائها عالياً، ما سيجعل حياتها مليئة بالقلق والخوف والنكد (ولا بد من أن نذكر هنا أن تصوير الثدي المكرر لم يعد مرغوباً به كما كان من قبل، بعدما اكتشف أن تعرضه الكبير للأشعة يفوق نفعه).والخيار الثاني أن تسعى سناء إلى إزالة الكابوس برمته فتعرض نفسها لعملية استئصال ثدييها بالكامل، ما سيسلبها جزءاً مهماً من أنوثتها ولن يحميها من احتمال تشكل سرطان المبيض في المستقبل.
لقد خطت العلوم الطبية في العقود الأخيرة خطوات متسارعة لم تخطها في تاريخ البشرية من قبل وما ينتظرنا من اكتشافات في المستقبل القريب أمر قد تعجز مخيلتنا عن تصوره... فمشروعات المورثات الإنسانية Human Genome Project ما زالت في أوائلها، والله وحده يعلم كم من الأمراض ستتبين للعلماء قابلية انتقالها بالوراثة مثل سرطان الثدي، وقدرتها على أن تسبب البلبلة والتعاسة لأصحابها..
ولا يقتصر الأمر على الموروثات، فهناك مثلاً الفحوص التي صارت تكشف وجود المرض الذي لا أمل من شفائه (مثل مرض الزهايمر Alzheimer’s)، سنوات قبل ظهور أعراضه.. فماذا يستطيع أحدنا أن يفعل إذا تبين بالفحص المخبري أنه مصاب بمثل هذا المرض ولا مفر له من خسارة قدراته الذهنية تدريجياً حتى يصبح عالة على أهله ومجتمعه؟
نسأل الله اللطف والقدرة على التكيف، روحيا وأخلاقيا، مع التطورات السريعة في علوم الطب كما في غيرها من العلوم حتى لا تكون سببا في شقائنا بل وفنائنا..
في إحد أساطير اليونان القديمة يقوم ملك جزيرة كريت الظالم مينوس Minos بسجن العالم ديدالس Didalus وابنه إيكارس Icarus في حصن شاهق.. ولكن العالم الذكي يصنع لنفسه ولابنه أربعة أجنحة من الخشب وريش النعام يلصقها على جسميهما بالشمع المذاب كي يهربا طائرين من نافذة الحصن المرتفع.
وبنصح ديدالس ابنه قبل أن يطيرا بألا يقترب كثيراً من الشمس (معقل إله آلهة الإغريق أبولو Apolo)، حيث تكمن أعلى درجات العلم، لئلا تذيب أشعة الشمس الشمع الذي يثبت الجناحين الصناعيين على جسمه..
غير أن إيكارس أخذته النشوة وهو يطير في الفضاء لأول مرة فراح يعلو ويعلو مقترباً من الشمس (مصدر العلوم)، ناسياً نصيحة أبيه، وهو ما أذاب الشمع عن جسمه وجعله يهوي إلى البحر ويلقى حتفه.
ترى ماذا عسانا أن نفعل ونحن نقترب من درجات العلم العليا؟ ماذا عسانا أن نفعل حتى لا يؤول مصيرنا إلى ما آل إليه مصير إيكارس؟