شاهدت ذات مرة صينياً قصيراً أحببت أن أشارككم التأمل في معناه وأخذ العبرة منه، حيث عرض المقطع موقفا لسيدة عجوز تتنقل في مخزن كبير من مكان إلى آخر مع حفيدتها ذات السنوات العشر، والتي تركها ابنها في رعايتها لاضطراره للسفر مع زوجته بحثا عن عمل جديد يرتزق منه.
ونظرا لضيق ذات اليد، كانت العجوز تنتقي بعناية أرخص ما كان متوافراً في المخزن من طعام لها ولزوجها القعيد في البيت وحفيدتها الغالية.
وعندما مرت العجوز بزاوية في المخزن مخصصة للحلوى، توقفت الطفلة تتفحص القطع الشهية المعروضة، ثم فاجأت جدتها بتناول كعكة مزينة بأنواع متعددة من الفواكهة طالبة منها أن تشتريها لها كي تقدمها لجدها في اليوم التالي بمناسبة عيد ميلاده، وأُسقط في يد الجدة، إذ كان ثمن الكعكة يفوق كل ما في جعبتها من أموال، ولم تستطع وهي تعيد الكعكة إلى موضعها إلا أن تعتذر للطفلة وتطيّب خاطرها وهي تقول إنها ستعثر في المخزن على هدية أخرى جميلة لجدها أقل كلفة من تلك التي اختارتها، لكن كلماتها اللطيفة لم تمنع انهمار الدموع على وجنتي الطفلة المسكينة.
لم تلحظ الجدة رجلاً شاباً كان في هذه الأثناء يقف غير بعيد يشاهد ويستمع لما يجري، ولم ترَ الشاب وهو يجلب الكعكة ذاتها ثم يتقدم منهما وهو ينظر للطفلة قائلا: "هل يمكن أن أقدم لك هذه الكعكة لتأخذيها لجدك في عيد ميلاده؟ وقبل أن ترد الطفلة وهي في غاية الدهشة قالت الجدة بلطف وخجل: شكرا أيها الشاب، لكننا لا نستطيع قبول هذه الهدية وأنت لست مجبرا على شراء الكعكة لنا.
أجاب الشاب اسمحي لي يا سيدتي أن أخبرك بقصتي "لقد نشأت في عائلة فقيرة وحينما كنت بعمر حفيدتك أخذتني أمي لأحد المتاجر في ذكرى يوم ميلادي لتنتقي لي هدية متواضعة تناسب دخلنا، فوقع نظري على كعكة لم أر أجمل منها، وتوسلت لأمي أن تشتريها لي بهذه المناسبة لكن ما كان معها من نقود لم يكن يكفي ثمنا للكعكة، فأخذت تخفف عني وتؤكد أنها ستعثر على هدية مثلها أو أجمل منها، الأمر الذي لم أتقبله بحال لأن الكعكة كانت كل ما أريد، فأخذت أبكي.
وإذا برجل كان يقف قريبا منا فأخذ الكعكة ذاتها، ثم اتجه إلى محاسب المتجر قائلاً: كنت قد ابتعت منكم غرضا وأرجو الآن أن أستبدل هذه الكعكة به، بعد ذلك التفت الرجل إلينا مبتسماً وقدم لي الكعكة كهدية منه.. لقد قضيت عمري وأنا أتمنى أن أعثر على هذا الرجل الكريم فأشكره؛ وهذه الهدية المتواضعة هي شيء مما تعلمته من هذا الموقف الذي لن أنساه ما حييت، فأرجوك سيدتي أن تقبليها مني.
ثم توجه الشاب إلى الطفلة قائلا: "هل تعدينني عندما تكبرين وتحوزين ما يكفي من المال بأن تقدمي هدية لطفل محتاج؟ أومأت الطفلة بالإيجاب على الفور، قالت الجدة لا أدري كيف أشكرك أيها الشاب.
أجاب وهو يودعهما: بل أنا الذي عليّ شكركما؛ غير أن الجدة لحقت به وهو يتجه نحو باب الخروج قائلة: هل يمكن أن تترك لنا اسمك ورقم هاتفك حتى نوفيك بعض حقك في المستقبل، فكر الشاب لحظة ثم أخذ قطعة صغيرة من الورق من جيبه دوّن عليها شيئا ما ثم طواها وأعطاها للطفلة وهو يبتسم.
في صباح اليوم التالي هرعت الطفلة إلى جدها وهو جالس على كرسيه المتحرك ووجهها يشع بهجة وفرحاً صائحة "عيد ميلاد سعيد يا جدي!"، عانق الجد حفيدته وهو ينظر بدهشة إلى زوجته قائلاً: "هذه كعكتي المفضلة شكرا جزيلا يا أحبائي ولكن أليست باهظة الثمن؟ قالت الجدة بعد تردد: الحقيقة أن شابا ساعدنا في شرائها.
قال الجد شاب؟ ومن هو هذا الشاب؟ وبينما كانت الجدة تحضر الجواب تذكرت الطفلة الورقة المطوية التي تركها الشاب معها فأسرعت لإحضارها إلى جدها الذي فتحها ليقرأ فيها "ما تفعله من خير لا بد أن يعود إليك في أحد الأيام".
وابتسم الجد وعيناه تترقرقان بالدموع، إذ تذكر الواقعة التي دارت معه منذ سنوات بعيدة، فالجد القعيد لم يكن إلا ذلك الرجل الذي استبدل ما كان ينوي شراءه في أحد المتاجر بكعكة قدمها لطفل محروم.
لم أستطع عندما أنهيت مشاهدة المقطع وعيناي تذرفان الدموع، إلا أن أقارن هذه الحادثة بما نسمعه صباح مساء عن فظائع ترتكب بحق الإنسان العربي من قبل من نسي إنسانيته أو تناساها وتخلى عن شهامته العربية التي كانت مفخرتنا وتعمد ارتكاب ما يندى له الجبين، فأين التراحم والتعاطف والتآخي الذي يجعل الضمير حيا، أم هل ترانا فقدنا تلك الشهامة التي كانت إكليل غارٍ على جبيننا لتتحول إلى عار؟!
يحكى أن الحكيم الصيني كونفوشيوس كان مع ثلة من تلاميذه حين سأله أحدهم أيها المعلم الكبير لقد تعلما منك الكثير فهلا دللتنا على حكمة بالغة تحمل أثراً من كل ما تلقيناه منك؟ أجاب كونفوشيوس: "نعم، لا تعامل غيرك من البشر بما لا تحب أن يعاملوك به"، ومن أقوال عيسى عليه السلام "كل الوصايا الإلهية يمكن جمعها بوصية واحدة: وأحبب جارك كما تحب نفسك".
وروي عن الرسول العربي الكريم "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه"، أما الجار الذي يتكلم عنه سيدنا عيسى أو رسولنا محمد فهو ليس من لون ولا عرق ولا دين معين.. هذا الجار هو بمثابة البشرية جمعاء، فكيف إذا كان أخاك في الثقافة والوطن؟
إنها القاعدة الذهبية التي بنيت عليها كل مبادئ الخير في العالم، والتي حثت عليها جميع الأديان عبر التاريخ، فلنتذكرها ولنتخذها منهاجاً ودستوراً، إذا أردنا لكوكبنا البقاء، ولقاطنيه الفلاح.
* هذا المقال من الخواطر غير المنشورة للراحل د. سامي القباني، ننشره في الذكرى الثانية لرحيله.