استرعاني خبر نُشر في أكثر من صحيفة أميركية، مفادُهُ أنه صار بإمكان العلماء "إعادة الشباب" إلى الكائنات الحيّة التي بلغت مرحلة متقدمة من العمر، وذلك بحقنها بدمٍ طازج مأخوذ من كائنات من ذات الفصيلة، لكنها ما زالت في عمر يافع. ومع أنّ البحوث الحالية اقتصرت على الفئران، إلا أنّ من شبه المؤكّد، أنّ هذا الفتح الطّبي الجديد سيَطاول الإنسان في القريب العاجل!
ذكّرني هذا الخبر بعملية تجميد و"دفن" بعض حديثي الوفاة من الأثرياء بعد حقن أوعيتهم الدموية بالمميّعات وتفريغها من الدم، وذلك بلفهم بصفائح رقيقة من الألمنيوم وغمسهم بمحلول النيتروجين المبرد لدرجة 196 مئوية تحت الصفر، وفي توابيت معدنية خاصة. كلّ ذلك على أمل إنعاشهم بعد قرون، ومعالجتهم من الأمراض المستعصية التي قضَوا نحبهم بسببها (على افتراض أنّ تلك الأمراض سيصبح بالإمكان القضاء عليها حينذاك).
كانت أول عملية "دفن مؤقت" من هذا النوع قد جرت في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية عام 1974، ويقال إنّ هذه العمليات، صدق أو لا تصدق، لا تزال تُجرى حتى اليوم في أكثر من بقعة في العالم!
هذا اللهاث وراء إعادة الشباب وتطويل العمر، كيف نجد له تفسيراً؟
نعلم جميعاً أن مآلَنا إلى الموت، شئنا أو أبينا. أو كما كان يقول أحد أساتذتي في كلية الطب: "إن احتمال أن يفارق أحدنا الحياة في المستقبل هو تماماً 100 بالمئة!". فما الذي يدعو البعض إلى المثابرة على دحض هذه الإحصائية، والسعي لإثبات بطلانها؟ ما الذي يدعو البعض إلى التمسك بالحياة لأطول فترة ممكنة، حتى ولو كانوا مصابين بمرضٍ عُضالٍ لا أمل في الشفاء منه؟ وما الذي يدعو البعض إلى إنفاق معظم ما جمعوه من مال ليسافروا إلى جهات بعيدة سمعوا بأنّ أحد الخبراء اكتشف فيها علاجاً سحرياً لآفتهم الميؤوس منها؟
التفسير الوحيد الذي يحضرني في هذه الحالات (والذي ذكرته في مقال بكتاب "قطوف من الحياة")، هو التسليم، الواعي أو الدفين، بأنّ الحياة الدنيا هي كل ما نملك ونخبر، وأن ما بعدها ظلام دامس، أو وجود آخر لا قيمة له.
إنها النّظرة (الأبيقورية) للدنيا، التي تقيم للسعادة الحسّية أكبر وزن، والتي دعت أحد سكان العالم السفلي (عالم الأموات) إلى أن يجيب الرحالة الأسطوري "يوليسيس" (بعدما سأله الرحالة عن أحواله)، في ملحمة هوميروس المشهورة "الأوديسا": "أتمنى لو كنتُ عبداً في عالمكم، عالم الأحياء، بدلاً من أن أكون مَلِكاً هنا"!
إنه، باختصار، الشكّ في أنّ هناك إلهاً لهذا الكون، وأنّ هناك بعد الموت حساباً على كلِّ ما نُبليه في حياتنا.
وإلى أن تتغير هذه النظرة، إلى أن يقتنع الجميع بأنه لا مفرّ من الرحيل من هذا العالم ومواجهة العدالة الإلهية، سيبقى هناك من يسعى لكلّ وسيلة لإطالة عمره (مهما صَعُبت الوسيلة أو كلّفت)، وسيبقى هناك من يستغلُّ هذه الرغبة العارمة عند البعض ليروّج لأساليبَ في تطويل الحياة لا تختلف كثيراً عن أساليب المحتالين والمشعوِذين.
(ولتجدنّهم أحرصَ الناس على حياةٍ ومن الذين أشركوا، يودُّ أحدُهم لو يُعمَّر ألفَ سنةٍ وما هو بمزحزحِهِ من العذابِ أن يُعمَّر، والله بصيرٌ بما يَعْمَلون).
* هذا المقال من خواطر د. سامي القباني، وينشر للمرة الأولى في الذكرى الخامسة لرحيله.