حالات الأنا تتمثل بوجود ثلاثة أشخاص مختلفين داخلك في هذه اللحظة التي أحادثك فيها الآن، أو بكلمات أخرى؛ جسدك يشبه الشقة المفروشة التي تحتوي على ثلاث حجرات منفصلة، كل حجرة منها يعيش فيها شخص مستقل، له حياته وذكرياته وتصرفاته الخاصة به، وفي كل موقف من مواقف حياتك يمسك بزمام الأمور أحد هؤلاء الأشخاص، وتكون له الغلبة والسيطرة على الشخصين الآخرين وهكذا.
ما هي حالات الأنا الموجودة داخلك؟
صاغ الطبيب النفسي الأمريكي إريك بيرن في عام 1958 حالات الأنا ، ولاحظ أنه عندما تشاهد الناس وتستمع إليهم يمكنك رؤيتهم يتغيرون نفسيًا من حالة إلى أخرى أمام عينيك، ولقد أدرك وجود حالات الأنا عندما أدلى بملاحظات مثيرة للاهتمام لدى إحدى الحالات لديه، ففي إحدى الجلسات كان للحالة صوت وأسلوب طفلة صغيرة، وفجأة تحولت إلى أم بارة وكانت انتقادية في أسلوبها، وفي لحظات أخرى بدت وكأنها امرأة بالغة تفسر موقفها بشكل منطقي، ويمكن تفسير حالات الأنا الثلاثة كما يلي:
حالة الأنا الطفلية
ذلك الشخص الذي تكون عليه وأنت في حفل، أو في حالة فرح، أو خلال رحلة مع أصحابك هو (الطفل) الخاص بك، والذي يسكن داخلك منذ أيام طفولتك الأولى، ويخرج ليعبر عن نفسه في أوقات اللعب والفرح والسعادة، ويتحرك بمرونة وليونة وحرية، ويفهم ويستوعب بهدوء دون تشنج أو توتر، ويتصرف بتلقائية وعفوية، ويلعب ويرقص ويسرح بخياله ويبدع بلا حدود، يسمى هذا الشكل من طفلك الداخلي حالة الأنا الطفلية أو (Child Ego State) كما يطلق عليها دكتور إيرك بيرن مؤسس هذه النظرية النفسية المسماة بالتحليل المعاملاتي Transactional analysis.
تمثل هذه الحالة طفلاً حراً على سجيته قبل أن يتكلف ويتكيف مع الظروف من حوله، والواقع المحيط به، ومع عوامل التربية وضغوط المجتمع وغيرها، ليسمَّى وقتها (الطفل المذعِن) أو (الطفل المتكيِّف) Adapted Child، وهو تلك النسخة من طفلك الداخلي التي قررت عند سن معينة أن تتنازل عن تلقائيتها وفطرتها وحريتها وحقها في الاعتراض والاختيار والقبول والرفض، وتتحول إلى طفل لطيف يسمع الكلام، ولا يقول لا، ويجلس منحنياً مستكيناً بلا صوت ولا حركة.
هناك شكل ثالث لذلك الطفل الداخلي اسمه (الطفل المتمرد) الذي يرفض الانصياع لأي قواعد أو قوانين، وهو دائماً في حالة صراع أو منافسة مع غيره، عنيد وصعب الانقياد، وسريع الصد والرد، فالطفل الداخلي لديك هو الساكن الأول داخل عقلك الباطن الذي قد يكون حراً، وقد يكون مذعِناً متكيفاً، وقد يكون متمرداً، وقد تتحول إلى أحدهم في بعض المواقف، وأعني هنا تحولاً نفسياً وحضوراً عقلياً وسلوكاً حراً أو مذعناً أو متمرداً.
حالة الأنا الوالدية
لنتعرف الآن على الساكن الداخلي الثاني واسمه (الوالد)، أو حالة الأنا الوالدية (Parent Ego State)، وهو ذلك الأب (أو الأم) الذي يخرج من داخلك حينما تكون في موقف يستدعي الحنان والأبوة (أو الأمومة) وسعة الأفق، موقف يحتاج إلى سماح وعطف وتفهم وعطاء حينما يكون مطلوباً أن تسمع وتسمح وتنصح وترشد، وأن تشعر بمن أمامك وتراعيه وتساعده وتقدر احتياجاته تماماً كما يفعل الأب مع ابنه.
وكما أن للطفل الداخلي أكثر من صورة فهناك أيضاً للأب الداخلي أكثر من صورة، إما أن يكون كما وصفناه للتو ويسمى وقتها (الوالد الراعي)، أو أن يكون (والداً ناقداً)، وهو شخص قاس غاضب لا يرضى أبداً ولا يكف عن النقد واللوم وإصدار الأوامر والتعليمات، صارم وقاطع ومتسلط لا يسمع ولا يفهم ولا يمنح فرصاً مهما حدث.
ينبغي أن أؤكد أن كل شخصية أو حالة من تلك الحالات لها ما يميزها من طريقة في الكلام، ونبرة في الصوت، وأسلوب في الحركة والمشي والجلوس، وبعض الكلمات المعينة الخاصة بها، ولها تعبيرات وجه مختلفة، وطريقة في استقبال الأحداث والتعامل معها، ولها حتى بناء عصبي خاص في المخ، وكأنها شخص منفصل بذاته فعلاً.
حالة الأنا البالغة
هناك حالة ثالثة وأخيرة تسكن داخلك وتظهر عليك في مواقف أخرى اسمها (البالغ) أو حالة الأنا الراشدة (The Adult Ego State)، وتكون عليها في المواقف التي تستدعي التعقل ووزن الأمور والتعامل مع الحقائق والواقع بأقل قدر من المشاعر، فتستطيع وقتها أن تتحكم في انفعالاتك وردود أفعالك دون تلقائية الطفل، ودون حنان أو قسوة الوالد، وتكون وقتها كالحاسب الآلي لا تَعلَم غير المنطق والحسابات والتجرد من العواطف حتى تصل إلى رأي أو تتخذ قراراً وتكون محايداً صريحاً حكيماً هادئاً متزناً، وتستخدم كلمات مثل (هذا رأيي)، (أعتقد كذا...)، (وجهة نظري كذا..).
توجد هذه الشخصيات أو الحالات داخلنا منذ طفولتنا، وكلنا رأينا الطفلة الصغيرة التي تتعامل (بكل أمومة) مع عروستها، أو الطفل الصغير الذي يعنف أخاه أو أخته ويرفع في وجههم سبابته كأنه والدهم الناقد، أو الطفل الآخر الذي يرتدي نظارة والده، ويلعب دور الحكيم المتفلسف صاحب المنطق والحجة.
غالباً أنت تسأل نفسك الآن: مَن أنا في كل هؤلاء؟
الإجابة هي أنك أنت (كل هؤلاء)، ولكنك تكون أحدهم في كل موقف من مواقف حياتك، وهذا هو الطبيعي والصحيح نفسياً، لكن لو خرج منك أحدهم في غير الموقف المناسب له، يكون وقتها مرضًا نفسيًا ووضعًا غير طبيعي وغير صحيح.
فلا يصح أن يخرج منك (الوالد الناقد) في حفل أو رحلة يستخدم لغة النقد واللوم و(يلزم كذا) و (يجب كذا)، ولا يصح أن تخرج منك حالة (الطفل الحر) في المحاضرة مثلاً فتقوم بالتهريج والرقص والخروج عن المألوف، ولا يصح كذلك أن تستخدم (حالة الأنا الراشدة) وأنت تلعب مع أطفالك مستخدماً لغة المنطق والحقائق، فلكل مقام مقال ولكل موقف حالة مناسبة من (حالات الأنا)، وإلا فصعوبات شخصية، ومشكلات في العلاقات، وأعراض نفسية.
الأسئلة الأكثر شيوعاً
كم عدد أنواع الأنا الموجودة؟
هناك ثلاثة أنواع رئيسية من حالات الأنا وتشمل: حالة الأنا الطفولية التي تظهر على شكل تصرفات طفولية إما بالإذعان أو التمرد أو التكيف، وحالة الأنا الوالدية التي تظهر على هيئة تصرفات أب أو أم سواء كان مسيطرًا أو متحكمًا أو مراعيًا، أما الحالة الأخيرة فهي حالة الأنا البالغة الرشيدة التي تتصرف بحكمة ورزانة ورجاحة عقل ومنطقية.
من أين تأتي الأنا؟
توجد هذه الحالات أو الشخصيات المتعددة في داخلنا منذ طفولتنا، فهي تنشأ وتتطور خلال مرحلة الطفولة، ولكن تظهر هذه الشخصيات في وقتها المناسب حسب الموقف الذي تمر به أو الحالة التي تتطلب ظهور هذه الشخصية، ويجب أن تظهر حالات الأنا في موضعها المناسب، فإذا ظهرت في غير ذلك يصبح ذلك خارجاً عن الطبيعي.
ختاماً، حينما تكون في حالة (الطفل الحر) تتحرك ببساطة، تستقبل بلا نقد أو أحكام، تفكر بمرونة دون تعقيدات، ويكون في كلامك كثير من العفوية والفكاهة والبهجة والمرح، وتعبر عن نفسك وعن مشاعرك بتلقائية دون تكلف، وحينما تكون في حالة (الطفل المذعِن/المتكيف) تكون هادئاً للغاية، تسمع الكلام دون مناقشة ولا اعتراض، تتحمل الإساءة والإهانة دون ردّ، جلستك منحنية، صوتك منخفض، وليس عندك استعداد للاختلاف أو الإبداع، وتكون كلماتك من قبيل (لماذا يحدث معي ذلك دائماً؟)، (أنا دائماً سيئ الحظ).
وحينما تكون في حالة (الطفل المتمرد)، فإنك تكون متمرداً على كل وأي شيء، أما لو كنت في حالة (الوالد الراعي)، فإنك تهتم كثيراً بمن حولك، وتستخدم تعبيرات مثل (أود مساعدتك) (هذا في مصلحتك) (أنا أعلم منك) وهكذا، ولو كنت في حالة (الوالد الناقد)، فإن كلامك تملؤه كلمات مثل (يجب)، (المفروض)، (اللازم) وتستخدم إصبع (السبابة) كثيراً في وجه غيرك كتعبير عن القواعد الصارمة والغضب الشديد.