تحدثنا في مقال "المحطة الأولى من محطات في تاريخ داء السكري" عن العديد من المحطات الهامة في تاريخ اكتشاف السكري، وسنستكمل في هذا المقال.
* ارتباط البنكرياس بداء السكري
بقيَ دليل ارتباط البنكرياس بداء السُّكَّري غامضاً حتى عام 1889، عندما تمَّ التوصل إلى اكتشاف مذهل في العيادة الطبية لجامعة استراسبورغ في ألمانيا، فقد اختلف البروفيسور أوسكار منكوفسكي Minkowski والبروفيسور جوزيف فون ميرنغ Mering حول ما إذا كانت الخمائر البنكرياسية هي العامل الرئيسي في هضم الدسم من الأمعاء أم لا. ولحسم القضية، قرَّرا إجراء تجربة صعبة تتمثل في استئصال بنكرياس كلب ومراقبة ما الذي سيحدث للهضم من دون العصارة البنكرياسية.وفي رواية كُتبت بعد ذلك بسنوات، وصف منكوفسكي كيف أنه ترك الكلب المستأصل بنكرياسه فون ميرنغ مربوطاً في المختبر بانتظار أن يعود فون ميرنغ من إجازته: "على الرغم من أن الكلب كان مُروَّضاً على الحياة المنزلية، وبرغم أنه كان يتمُّ إخراجه بانتظام إلى الخلاء، إلا أن الكلب قد استمر بالتبوُّل على أرضية المختبر".
-
العلاقة بين البوال وسكر البول
-
كيفية تنظيم البنكرياس لاستقلاب السُّكَّر؟
وعندما أشار النقاد إلى احتمال فشل ربط الأقنية في أحوال كثيرة، استنبط الباحث الفرنسي هيدون Hédon في عام 1893 طريقة جراحية مثَّـلت دليلاً مُفحماً، حيث قام في المرحلة الأولى من عمليته باستئصال كامل البنكرياس تقريباً، قاطعاً بشكل نهائي المؤونة من العصارة البنكرياسية. وقد ترك هيدون قطعة صغيرة من البنكرياس وأبقاها مرتبطة بأوعيتها الدموية ثم سحبها عبر الجرح واغترسها تحت جلد بطن الكلب، وعلى الرغم من أن الكلب فقد معظم بنكرياسه، ولم تعد لديه أيُّ عصارة بنكرياسية قطّ، إلا أنه لم يصبح مصاباً بداء السُّكَّري، وعندما أكمل هيدون تجربته وقام بانتزاع القطعة المغترسة، ظهر داء السُّكَّري فوراً.
أصبح من الصعب تفنيد الاستنتاج بأن البنكرياس يمتلك وظيفتين:
- الإفراز البنكرياسي الخارجي، أي العصارات الهضمية.
- الإفراز الداخلي الذي يصب مباشرة في المجرى الدموي وينظم استقلاب السُّكَّريات (الكربوهيدرات).
-
الحلقة المفقودة.. اكتشاف الغدد الصماء
تناغمت هذه الأفكار الجديدة عن البنكرياس مع المفاهيم الحديثة والمكتشفات التجريبية حول الأعضاء وإفرازاتها، فهناك العديد من الغدد غير القنوية ductless مثل الغدة الكُظرية، والتيموسية، والدرقية، والمبيضين، والخصىتين، والنخامية، وتسمَّى هذه الغدد بالغدد الصُّماء endocrine، وتنتج ما يُسمَّى الإفرازات الداخلية أو الصَمَّاوية.
في عام 1890، تولد كمٌّ هائلٌ من الإثارة عندما اُكتُشِف أن من الممكن معالجة قصور الغدة الدرقية بإطعام المرضى خلاصات الغدة الدرقية، وأضحى جلياً أن الغدة تنتج إفرازاً يُمكن أن يُعوَّض في حال نقصانه على نحو صناعي، وكان اكتشاف الأدرينالين، الذي يُفرز من لب الغدة الكُظرية، مَعْلَماً مُثيراً آخر في ذلك المنقلب التاريخي.
* الهرمونات.. الرسل الكيميائية
وكان هناك المزيد، فقد اكتشف ستارلنغ Starling وبيلس Bayliss هرمون السُّكَّريتين في عام 1902، ويفرز السُّكَّريتين من الأثني عشر وهو يزيد إفراز العصارة البنكرياسية، وأطلق ستارلنغ على هذه الرسل الكيميائية مصطلح الهرمونات، وبدأ الجميع بالتساؤل: ما هو عدد الهرمونات الأخرى التي لم تكتشف بعد؟ وكيف تعمل؟لقد نشرت وفي غضون سنوات قليلة آلاف المقالات حول ذلك الحقل الجديد، حقل الغدد الصُّماء، ولقد كان حقلاً ناشئاً، وحقلاً تخمينياً إلى حدٍّ بعيد، وقاد ذلك إلى حدوث شعوذة واسعة حين اعتقد الناس أنهم باتوا قاب قوسين أو أدنى من ذروة الاكتشافات المتعلقة بإفرازات الأعضاء الجنسية.
ما أنْ تمَّ التحقُّق من أن البنكرياس يضبط داء السُّكَّري حتى بدأت المحاولات الحثيثة لمعالجة المرض بخلاصات البنكرياس، مثلما عُولجت بعض أمراض الدرق بإعطاء خلاصتها.
كان منكوفسكي من أوائل الباحثين الذين حاولوا استعادة وظيفة البنكرياس لدى الحيوانات المستأصلة البنكرياس، وذلك بتحضير خلاصة من البنكرياس وإعطائها لتلك الحيوانات، وكانت لبعض الخلاصات الأخرى تأثيرات عابرة مُخفِّضة لسكر البول، بحيث يمكن تجاهلها قياساً بالتأثيرات الجانبية الخطيرة التي أحدثتها.
على الرغم من النتائج المُوهِنة للعزيمة، فقد استمر البحث عن خلاصات بنكرياسية عملية. ويُعتبر الطبيب الألماني زولزر George Ludwig Zuelzer أكثر المستخلصين الأوائل أهمية ومثابرة، حيث يُمِّثل مرضى داء السُّكَّري الشديد، الذين هم في حالة الاحتضار، حالات مَيْئوس منها، وبالتالي فقد بدا له أن لا شيء يُمكن خسارته من إجراء تجاربه عليهم، وفي الحادي والعشرين من حزيران/ يونيو عام 1906، وفي إحدى العيادات الخاصة في برلين، حقن زولزر 8 مل من خلاصة بنكرياسية تحت جلد مريض سكري يبلغ من العمر خمسين عاماً، ثم قام في اليوم التالي بحقنه 10 مل من الخلاصة أيضاً، وأياً كان تأثير الخلاصة على البيلة السُّكَّرية، فإنه أمر لم يَتمكَّن زولزر من تقديره، لأنَّ المريض كان فاقد السيطرة على مثانته ويبلل فراشه، لكنَّ الذي كان جلياً للعيان هو أن المريض استرد وعيه، تحسنت حالته العامة، عادت شهيته واختفى دواره الشديد وبدا وكأنه قد رجع من حافة القبر، ولسوء حظه، نفدت الخلاصة وغرق المريض، في الثلاثين من حزيران، في سبات عميق وتوفي في الثاني من تموز/ يوليو.
ما شاهده زولزر كان مُذهِلاً بكلِّ المقاييس، لقد نجا مريض سكري من السبات ولو لفترة وجيزة، وكان زولزر يشير دوماً إلى تجاربه الأولى مع خلاصته التي سمَّاها Acomatol 13.
واجه زولزر أثناء تنفيذ تجاربه صعوبات عمليَّة جمَّة، فقد كان من الصعب الحصول على مؤونة من غدد البنكرياس، حتى أنَّ عمال المسالخ المحلية كانوا يظنون أنَّ ذلك الطبيب، الذي يطلب منهم إعطاءه البنكرياسات الطازجة، لا بُـدَّ أنهَّ شخص مخبول.
لقد تعلَّم العلماء المُجرِّبون أنَّ عليهم أنْ يكونوا حذرين، وأصبح الإعلان عن صلاحية أيَّ نتائج حول الخلاصة البنكرياسية سِمَةً من سِمَات الحصافة المهنية، وكانت مناقشة عمل طالب من جامعة شيكاغو في عام 1911-1912 مثالاً عن ذلك الحذر المُكْتسب بالتعلم، واختار ذلك الطالب، واسمه سكوت E.L.Scott، موضوع الإفراز الداخلي للبنكرياس كمشروع بحثي لنيل درجة الماجستير، ويُعزى اختياره للموضوع إلى تأثره بوفاة أحد أصدقائه بداء السُّكَّري، وكان الاستنتاجان الأولان لأطروحته:
- هناك إفراز بنكرياسي داخلي يُنظِّم استقلاب السُّكَّر.
- يُمكن استخلاص هذا الإفراز مُحتفظاً بفعاليته باستعمال طرق خاصة.