في أوائل الثمانينات من القرن العشرين، استَغرَقَ ثلاثة علماء في مختبرات جامعة هارفارد الأمريكية سبع سنوات في البحث عن صورة توضح الشكل الفراغي لجزيء البروتين الذي يحدد الزمرة المناعية HLA في الكريات البيضاء. كانوا يحاولون كشف تركيبه الكيميائي، وبالتالي تَصَوّر طريقة عمله. ضَمَّ ذلك الفريق من الباحثين عالِم الأحياء الأمريكي دون وايلي Don Wiley (1944-2001)، وعالِم الكيمياء الحيوية جاك سترومينغر Jack Strominger (1925) والباحثة الشابة باميلا بيوركمان Pamela Bjorkman (1956) التي كانت تسعى للحصول على شهادة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية.
مهمة صعبة
منذ أن اكتَشَف العالِم الشهير بولينغ الشكل اللَّولبي لبعض البروتينات في خمسينات القرن العشرين، أدرك علماء البيولوجيا أهمية العلاقة الوثيقة بين شكل البروتين وعمله في التفاعلات الكيميائية الحيوية داخل الخليَّة. ومع اكتشاف واطسون وكريك تركيب الحمض النووي DNA سنة 1953، ومعرفة العلاقة الوثيقة بين شكله اللولبي ووظيفته في نقل الصفات الوراثية، ترسَّخَت العلاقة بين شكل جزيئات المواد الحيوية وعملها في الخليَّة الحيّة.
استخدَم العلماء طريقة تصوير انحراف الأشعة السينيَّة في اكتشاف نوع وتَوَزّع الذَرَّات التي تؤلف جزيئات المواد المعقَّدة التركيب، خاصة البروتينات. ولا يمكن تصوير جزيئات هذه المواد بوضوح إلا إذا أمكن تحضيرها بشكل بللورات نقية. وكانت هذه الخطوة هي المعضلة الكبرى في دراسة المواد البروتينية المعقدة. أُوكِلتْ هذه المهمة الصعبة إلى الباحثة الشابة لكي تُحضِّر رسالة الدكتوراه.
بدأت الباحثة الشابة باميلا دراستَها الجامعية العُليا في جامعة هارفارد سنة 1978 ولمْ يكن عمرها آنذاك سوى اثنتين وعشرين سنة. لمْ تكن تعرف بالضبط ماذا تريد أنْ تدرس، ولكنها كانت مهتمة بالعلوم بشكل عام. حَسَمَتْ ترددها بعد أن استَمعتْ إلى محاضرة ألقاها العالِم الشاب دون وايلي في الجامعة. كان وايلي نجماً صاعداً في سماء البحث العلمي. كان وسيماً وطويل القامة، يرتدي الأسود من رأسه إلى قدميه. واستطاع أن يجذبها بحماسته الطفولية نحو دراسة البروتينات.
اتجهَت باميلا أولاً نحو دراسة بروتينات فيروس الانفلونزا، ولكن سرعان ما فَقدتْ حماسها بعد أنْ سبَقَها علماء آخرون إلى كشف ذلك. في تلك الأثناء، كان العالِم سترومينغر قد عاد إلى هارفارد ليتابع أبحاثه في دراسة النشاط الحيوي في الجراثيم، بعد أن اكتَشَف كيفية عمل البنسلين عن طريق وقف تشكُّل جدار الخلية في البكتيريا، مما يؤدي إلى قتلها. وبالمصادفة، كان مختبر سترومينغر مجاوراً تماماً لمختبر وايلي.
إلهام في باريس
استمَع سترومينغر في أحد المؤتمرات العلمية في باريس إلى محاضرة طَرَح فيها عالِم المَناعة الإنكليزي آلان ديفيز D.A.L. Davies فكرة أنّ الاختلافات في الجزء السّكري أو الدّهني في تركيب جزيئات HLA ربما تفَسِّر التنوع الكبير فيها، بطريقة تشبه التنَوع في الزُمَر الدموية التي اكتَشَفها لاندشتاينر.
ولمعَتْ في ذهنه فكرة بحث مشكلة رفض زرع الأعضاء بدراسة مواد المَناعة الأساسية، وأنْ يطبِّق خبرته الواسعة في دراسة البروتينات السكرية لاكتشاف تركيب جزيئات HLA المَنَاعية.
بعد سنوات من البحث والدراسة، أَظهرتْ دراسات سترومينغر أنه لا علاقة للسكريات بالاختلافات الموجودة في جزيئات HLA. ولكنه خلال دراساته تلك كان قد توصَّل إلى تحضير كميات نقية من هذه البروتينات، واتفق مع وايلي على العمل معاً في دراسة بروتينات المواد المَنَاعية HLA. انضمتْ إليهم طالبة الدكتوراه الشابة باميلا بيوركمان سنة 1979 لكي تركِّز على تحضير عَيِّنات بلّورية نقية من بروتينات HLA لتصويرها بطريقة انحراف الأشعة السينية.
ولأنهم كانوا يدركون صعوبة ذلك، فقد قرروا أنْ تحاول باميلا ذلك لمدة سنة واحدة لا أكثر، وألا تتابع البحث إلا إذا نجحتْ في الوصول إلى نتائج أولية موفَّقة. قامتْ أولاً بتحضير عَيِّنات حصلتْ عليها من دم امرأة، واستطاعتْ تحضير بروتينات نقية من HLA، وكانت من زمرة HLA-A02 الأكثر انتشاراً في أمريكا. شعروا جميعاً بالتفاؤل عندما نجحتْ باميلا في الحصول على بلّورات جيدة من هذه البروتينات في أول محاولة قامتْ بها، مما شجَّعهم على الاستمرار في البحث. إلا أنّ الحظ الجيد لمْ يستمر، بل امتدتْ أبحاثها سبع سنوات عجاف.
في السنة الثامنة أتيحتْ لباميلا فرصة استخدام جهاز أشعة أقوى وأحدث، ولكن كان عليها انتظار دَورها في استخدام الجهاز الوحيد الذي كان متوفراً في الجامعة لكافة الباحثين. في إحدى المرات، وبعد أن انتظرتْ دَورها خمسة أيام كاملة، قيل لها أنّ الجهاز قد تعطّل ولمْ تستطع تصوير بلّوراتها. وفي مرة أخرى لمْ تسجِّل الكاميرا شيئاً على فيلم التصوير وضاعتْ جهود سنة كاملة. قامتْ باميلا خلال تلك السنوات بجمع نتائجها ودراستها وترتيبها حتى استطاعت التوصّل تدريجياً إلى كشف نحو 90% من تركيب بروتينات هذه الزُمرة المَنَاعية، وظلَّ جزء صغير من التركيب غير واضح المعالِم في الصور التي جمَعتْها. احتاج كشف ذلك الجزء الأخير إلى سنة شاقة أخرى من البحث.
معالِم غامضة
تحدَّثَ علماء آخرون عن ذلك الجزء الغامض في تركيب بروتين المَناعة HLA. فمنذ منتصف سبعينات القرن العشرين، قام العالِم السويسري رولف زينكرناغيل Rolf Zinkernagel (1944) والعالِم الأسترالي بيتر دوهيرتي Peter Doherty (1940) بأبحاث مهمة أثناء عملهما معاً في استراليا. اكتَشَف هذان العالمان وجود علاقة وثيقة بين مَناعة الفئران ضد بعض الفيروسات وحَمْلها الزُمرَة المَنَاعية نفسها.
وأشارا إلى أنّ الزُمَر المَنَاعية لا تتعلق فقط برفض زرع الأعضاء، بل إنّ لها دوراً ما في دفاع الجسم ضد بعض الالتهابات الفيروسية. أي أنّ للزُمَر المَنَاعية دوراً في صحة الجسم، وأنها ليست موجودة فقط لكي تجعل عملية زرع الأعضاء صعبة ومعقدة. وافترضا أنّ التنوع الكبير في الزُمَر المَنَاعية ربما يتعلق بدورها في حماية أجسامنا من الالتهابات الفيروسية.
ولكن ما هي العلاقة بين الالتهابات الفيروسية وما نحمله في أجسامنا من الزُمَر المَنَاعية HLA التي تُميِّز كلاً منا؟ وكيف تُغَيِّر الفيروسات خلايا جسمنا بحيث تَكتَشِفُ خلايا المَناعة أنها "متغيِّرة" أو "مُختلِفة" فتَقضي عليها وتَقتلها؟ لمْ يكن لدى العلماء آنذاك أي إجابة على هذه الأسئلة الصعبة، ولكن بعد أن اكتَشَف وايلي وزملاؤه في جامعة هارفارد تركيب جزيء HLA-A02 سنة 1987، أدرك العلماء أهمية الدراسات الرائدة لهذين العالِمَين، وهكذا بعد مرور عشرين سنة على اكتشافاتهما، مُنِحَ زينكرناغيل و دوهيرتي جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1996.
اكتشاف فذ
في ربيع سنة 1987 تمكَّن الفريق الثلاثي من الباحثين في جامعة هارفارد من حلِّ اللغز الأخير، واكتشفوا سر عدم وضوح الجزء الأخير في تركيب الزُمرة المَنَاعية HLA-A02. فقد توصّلوا حتى ذلك الوقت إلى كشف حوالي 90% من تركيب البروتين الموجود فيه، وعرفوا أنّ شكله يشبه الشجرة ذات الأغصان المتفرعة التي تترك بينها أخدوداً أو فجوة.
لمْ تكن الفجوة واضحة المعالم في الصور العديدة التي حَصلوا عليها بسبب التنوع الكبير في محتويات هذه الفجوة. تَوضَّعَت الفجوة في قمة "الشجرة" بما يشبه "الكأس" بين شريطَين لولَبيين طويلَين من البروتين. ضمَّ كل جزيء من HLA في فجوته سلسلة صغيرة من البروتينات، وضَمَّتْ الفجوات أشكالاً مختلفة من سلاسل البروتين، أدى تنوعها إلى عدم وضوح التركيب في تلك المنطقة من "الشجرة".
أوحى شكلُ هذه المادة، والفجوةُ التي في قمّتها بأنها تُناسِب وظيفة احتضان وتقديم سلسلة خاصة من البروتينات الصغيرة، وكأنها ساريةٌ تَحمِلُ علَماً. وكأن وظيفة كل جزيء من الزُمرة المَنَاعية HLA هي أنْ يَحمل عَلماً مختلفاً ويقوم بعرضِهِ على خلايا المَناعة وخلايا الجسم الأخرى وكل المواد التي تَمر عليه. وأدركوا أن هذه السلاسل الصغيرة لا بد أنها تأتي من داخل الخليّة، ومِنَ المواد والجراثيم والفيروسات المختلفة التي تتعَرَّض لها هذه الجزيئات المَنَاعية، فتَحملها كالأعلام على سطح الخليّة. نُشِرتْ هذه الاكتشافات المهمة في مقالتَين يعتبرهما الباحثون من المقالات التي وَضَعَتْ أسس عِلم المَناعة الحديث. نُشِرت المقالتان في المجلة العلمية المرموقة Nature خلال شهرَين متتابعَين من سنة 1987، وَصَفَت الأولى التركيب العام لجزيء HLA، ووَصَفَت الثانية مكان الفجوة وكيفية التفاعل بين جزيء HLA وخلايا المَناعة.
رسم توضيحي لجزيء HLA-A02 الذي يُشبه الشجرة وأغصانها ويظهر في قمتها مكان الفجوة وسلسلة البروتين الصغيرة التي تَحملها (كما هي مبينة باللون الأصفر)
رسم توضيحي لجزيء HLA-A02 يوضح امتداده خارج جدار الخلية إلى سطحها حاملاً سلسلة صغيرة من البروتين في قمته.
في الشكل الأيمن يُرسم الجزيء بشكلٍ شريطيّ، ويُرسم في الشكل الأيسر بصورة ممتلئة ذات أبعاد ثلاثة
واكتشاف آخر
بعد أنْ صَدَرَ تصنيف منظمة الصحة العالمية للزُمَر المَنَاعية، وبعد أنْ دَرَسَ العلماء تنوعها الكبير وتوزعها الجغرافي الواسع، أدرك العلماء السبب في اكتشاف التركيب الجزيئي للزمرة HLA-A02 قبل أي زمرة أخرى، وذلك لأنها توجَد في أغلب خلايا الجسم، كما أنها أكثر الزُمَر تواجداً في سكان أمريكا وأوروبا. أما اكتشاف تركيب وشكل الزُمَر المَنَاعية الأخرى التي تتواجد فقط على سطح بعض أنواع الخلايا المَنَاعية، فقد كان أكثر صعوبة. وبعد خمس سنوات أخرى من تطبيق طرقهم وأساليبهم في البحث والتصوير استطاع فريق وايلي في جامعة هارفارد اكتشاف تركيب وشكل الزُمَر المَنَاعية مِنَ النوع الثاني سنة 1993، ووجدوا أنه يشبه كثيراً شكل وتركيب النوع الأول فيما عدا حجم وشكل الفجوة التي تَسمح بحمل سلاسل بروتينية أكبر وأكثر تنوعاً.
وهكذا اكتشف العلماء بعد بحث طويل ماهية تركيب وشكل بروتينات الزمر المناعية، ولكن، كيف تقوم هذه البروتينات بدورها الهام في تحديد ما هو ذاتي، وما هو غريب عن الجسم؟ وما هو دورها في التفاعلات المناعية الضرورية لحماية الجسم من دخول مواد غريبة عنه؟ احتاجت الإجابة على هذه الأسئلة إلى وضع نظرية عامة في المناعة تأخذ في حسابها كل ما توصل إليه العلماء حتى الآن، وتقدم تفسيراً علمياً لفهم المناعة.
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني