على الرغم من أنّ تقنيات القص والخياطة الجراحية وأساليب زرع الجِلد كانت قد تطورتْ بشكل كبير في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنّ مشكلة رفض الجسم للأعضاء أو النُسُج المنقولة إليه مِنْ غيرِه لمْ تكن مفهومة. كان رفض الأعضاء الغريبة عن الجسم لغزاً غامضاً أمام الأطباء، ولمْ تكن لديهم فكرة أو نظرية واضحة تفسِّر هذه الظاهرة. كيف يَتعرف الجسم على الجِلد الغريب؟ وكيف يَرفضه ويدمره؟
أبحاث في زرع الجلد لعلاج الحروق
انطلق رائد أبحاث المناعة بيتر مدَوَّر في أبحاثه من فحص النُسُج المزروعة بشكل منهجي دقيق. ولكي يُنفِّذ ذلك كان عليه أنْ ينتقل للعمل في وحدة لعلاج الحروق. وحصل بالفعل على منحة دراسية من لجنة جروح الحرب التابعة للمجلس الطبي البريطاني، وانتقل للسَّكن في فندق بسيط، والعمل لمدة شهرين في وحدة علاج الحروق في المستشفى الملكي لمدينة غلاسكو. التقى هناك بالجراح الاسكتلندي توم جيبسون Tom Gibson وأصبحا صديقين حميمَين.
هرع رجال الإنقاذ ذات يوم إلى المشفى بفتاة شابة في الثانية والعشرين من عمرها أُصيبتْ بحروق بالغة في مطبخ المنزل. تمّ تنظيف الحروق فوراً، وأُعطيت الدم اللازم، وتابع الأطباء علاجها. ولكن بعد مرور شهر لمْ تكن قد شُفِيتْ، واحتاجتْ إلى زرع الجِلد لتغطية الحروق. زَرَعَ جيبسون ومدَوَّر اثنين وخمسين قرصاً صغيراً أُخذتْ مِنْ منطقة سليمة مِنْ جِلدها، كما زَرَعَا خمسين قرصاً صغيراً أُخذتْ مِنْ جِلد أخيها. تمَّتْ مراقبة الجِلد المزروع يومياً، وأُخِذتْ عيِّنات للفحص تحت تكبير المجهر. كانت العيِّنات متشابهة في البداية، وظهرتْ علامات الشفاء المبكرة، ولكن بعد عدة أيام، ظَهَرَ غزو خلايا مناعية في عيِّنات الجِلد المأخوذ من الأخ، بينما لم يُلاحَظ ذلك في عيِّنات الجِلد المأخوذ من جسم المريضة ذاتها. وبعد ثلاثة وعشرين يوماً من الزرع، كانت أقراص الجِلد المأخوذة من الأخ قد تَحلَّلتْ تماماً بعد أنْ "رَفَضَها" جسم المريضة. وكأن الخلايا المناعية قد أدَّتْ إلى رفض الجِلد المزروع، ولكنّ ذلك لمْ يكن دليلاً مؤكداً، فقد وجِدَت الخلايا المناعية في المكان بالفعل، ولكن هل كانت هي التي قامَتْ بالرفض الذي أدى إلى تَحلل الجِلد المزروع؟
لماذا يتحلل الجلد المزروع؟
تذَكَّرَ جيبسون ما لاحظه سابقاً مِن أنّ زرع الجِلد مرة ثانية يؤدي إلى رفضٍ وتحللٍ أسرع من المرة الأولى. تنبه مدَوَّر إلى أنّ هذا التسارع يشبه ما يحدث في التفاعلات المناعية عند استخدام اللقاحات أو العدوى ببعض الجراثيم، وفكَّر أنّ إثبات حدوث هذه الظاهرة في رفض الجِلد المزروع ربما تؤكد أنّ الرفض هو في حقيقته ظاهرة تفاعل مناعي. كرَّر الباحثان زرع الجِلد للمريضة باستخدام أقراص صغيرة من جلد أخيها، وبالفعل تحللت أقراص الجِلد الجديدة خلال أقل من نصف زمن المرة الأولى. أدرك الباحثان أنّ عليهما التركيز على دراسة المَناعة كسبب أساسي في رفض زراعة الجِلد والأعضاء الأخرى، ولكنهما أدركا أيضاً أنّ تجربة واحدة لا يمكن أنْ تُثبتَ صحة افتراض أنّ المَناعة هي التي تؤدي إلى رفض زرع الأعضاء والأنسجة الغريبة عن الجسم، ولا بد من الحصول على بيانات كثيرة وكافية للتيقن من ذلك.
سنوات الأرانب وصبر الباحث
عاد مدَوَّر إلى أوكسفورد ودَرَسَ هذه الظاهرة في الأرانب. استخدَم خمسة وعشرين أرنباً في تجاربه الأساسية تلك، وزَرَعَ أقراصاً صغيرة من جِلدها بالتبادل فيما بينها، كرَّر ذلك الزرع عدة مرات مع دراسة ما يحدث للأقراص المزروعة تحت تكبير المجهر. قام أيضاً بتصوير مئات من هذه العينات وتسجيلها بدقة وعناية وصبر. واعتنى جيداً بهذه الأرانب وقام بتغذيتها ورعايتها جيداً فلمْ ينفق منها أرنب واحد طيلة مدة التجربة.
ولنا أنْ نتعلم من تجارب مدَوَّر ما يحتاجه الفوز بجائزة نوبل من جهد وصبر وأناة، فقد قام خلال تلك التجارب بإجراء 625 عملية زرع لأقراص الجِلد في أرانبه، ودَرَسَ مئات من العينات تحت المجهر وقام بتصويرها وتصنيفها، ثم قام بتحليل النتائج إحصائياً، ونَشَرَ نتائج البحث في مقالتين طويلتين سنة 1944 و 1945. قال مدَوَّر إنّ تلك الأبحاث كانت أشقَّ ما قام به من أبحاث في حياته، وأيَّدته زوجته في ذلك. لمْ يكن يرجع إلى البيت أحياناً حتى الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً.
كان يعود وفي يده حقيبته المليئة بالأوراق والمقالات العلمية التي كان يقرأها قبل صباح اليوم التالي. كان يشعر بالإرهاق الشديد، ولكن ما شجعه على الصبر هو شعوره بأنّ هذه المشقة لا تُعتبر شيئاً يُذكَر بالمقارنة مع الجهد والتضحية التي كان يبذلها الجنود والطيارون في الحرب. لمْ يكن مدَوَّر من الباحثين النظريين، بل كان يَبني ويَستنبط نظرياته استناداً إلى النتائج التجريبية، وحافَظَ على ذلك المنهج حتى بعدما أصبح رئيساً للمؤسسة الإنكليزية القومية للبحث الطبي سنة 1962، فقد تابَعَ القيام بالتجارب العملية يومين في الأسبوع ولمْ يسمح للالتزامات الإدارية بتعطيل أبحاثه العلمية التجريبية.
عنوان التقرير الأول الذي نشره مدَوَّر عن تجاربه بزرع الجِلد في الأرانب 1944
رفض الأعضاء ظاهرة مناعية
أيَّدتْ نتائج تجارب مدَوَّر على الأرانب ملاحظاته السابقة عن علاقة المَناعة برفض الأعضاء المزروعة، كما أضاف إليها ملاحظتين هامتين: الأولى هي أنّ رفْض قِطع الجِلد الكبيرة يكون أسرع من رفْض القِطع الصغيرة على غير ما يتوقعه المرء من أنّ القِطع الأكبر تحتاج إلى وقت أكثر لكي تتحلل.
إلا أنّ هذه الملاحظة تتفق مع نمط رد الفعل المناعي، إذ تقوم خلايا الدفاع المناعي عادةً بشنِّ هجوم أقوى عندما يكون التحدي أكبر. وكانت الملاحظة الثانية هي أنّ التحلل وردَّ الفعل المناعي يكون أسرع وأقوى في المرة الثانية لزرع الجِلد الغريب عن الجسم عندما يكون الجِلد المزروع في المرة الثانية مأخوذاً من الأرنب الذي أُخِذَ منه الجِلد المزروع في المرة الأولى، وكأنما يكون جهاز المَناعة قد استعدَّ أو تدرَّب على رفْض الجِلد في المرة الأولى فيكون ردُّ فعله أقوى وأسرع عندما يواجه العدو نفسه، فيرفض زَرْعَ الجِلد الجديد، ويكون هذا الرفض نوعياً وخاصاً بالجِلد المزروع نفسه وليس بجِلد أي أرنب آخر.
أثبتتْ عمليات زرع الجِلد عند الأرانب بما لا يدع مجالاً للشك أنّ رفض الزرع هو تفاعل مناعي تقوم به خلايا المَناعة في جسم الآخذ. واتجهتْ أبحاث مدَوَّر بعد ذلك إلى محاولة فهم ومعرفة الطرق والأساليب التي تقوم بها خلايا المَناعة لرفض الأعضاء والنسج المزروعة الغريبة عنها، وكذلك محاولة اكتشاف طرق علاجية لوقف أو لتخفيف الرفض المناعي وبالتالي نجاح زراعة الأعضاء.
لمْ تكن دراساته عن الأرانب سوى مقدمة لدراساتٍ أكثر واكتشافات أهم. فقد تابع أبحاثه بعدما أصبح مدَوَّر أستاذاً لعِلم الحيوان في جامعة برمنغهام سنة 1947، واستمر فيها بعدما انتقل سنة 1951 إلى جامعة لندن، حتى نَشَرَ نتائج أبحاثه تلك في مجلة Nature سنة 1953 في مقالة من ثلاث صفحات ونصف لا أكثر! استطاع مدَوَّر في هذه الصفحات القليلة أنْ يضع الأسس العلمية لطرق دراسة مشكلة زرع الأعضاء، وشرح فيها كيفية زرع قطع مِنَ الجِلد مِنْ حيوان لآخر دون أنْ يتمَّ رفضها وتحللها، ودون أنْ تُثير أي رد فعل مناعي ضدها.
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني