لو تخيلنا رحلة نقوم بها داخل جسم الإنسان، مثل تلك الرحلة العجيبة في أحد أفلام الخيال العلمي سنة 1966 Fantastic Voyage، وإذا نجونا من الهجوم القتَّال لخلايا المناعة والدفاع عن الجسم التي تجول مع الدم وتصل كافة أنحاء الجسم، وإذا اخترقنا جدار أحد الأوعية الدموية الدقيقة، وسرنا بين ألياف وأنسجة الجسم حتى وصلنا إلى إحدى خلاياه، سيقابلنا جدار معقد التركيب مبنيّ من جزيئات ضخمة من الدهون والسكريات المعقدة والبروتينات، وسنجد فيه فتحات وبوابات عليها حراس شداد.
وإذا استطعنا الدخول عبر إحدى هذه البوابات مع المواد الداخلة إلى الخليّة، سنجد أنفسنا نسبح في سائل الهَيولى اللزج، وحولنا كثير من الألياف والجُسيمات الصغيرة المتعددة الأشكال والألوان، كما سنقابل شبكات عديدة من القنوات الناعمة والخشنة، ومعامل صنع البروتينات، ومعامل انتاج الطاقة. نستمر في السباحة حتى نواجه بناءً ضخماً أو قلعة شامخة تذكِّرنا بقصور عظماء الملوك في قصص ألف ليلة وليلة. وسنجد أمامنا في جدار القلعة أيضاً فتحات وبوابات صغيرة عديدة عليها حراس غلاظ شداد، وسنعرف أننا قد وصلنا إلى نواة الخليّة.
التسلل إلى داخل نواة الخلية
إذا تسللنا داخل النواة، سنشاهد غابة هائلة كثيفة من الخيوط المتشابكة، ولن نستطيع السير خلالها أو العبور فيها إلا إذا استطعنا تصغير حجمنا أكثر وأكثر حتى نسري بهدوء بين تلافيفها. سنكتشف عندها أنّ هذه الغابة الدهماء إنما تتألف مِنْ أشجار ضخمة ملتفة (الصبغيات). نعدُّ هذه الأشجار فنجدها في خلايا الإنسان 46 شجرة متجمعة أزواجاً، منها الطويل ومنها القصير. ولو دققنا النظر لوجدنا أنّ هذه الأشجار ليست كالأشجار، بل هي أقرب إلى الأسلاك الغليظة المفتولة والمتفرعة. نُصَغِّر أنفسنا أكثر وأكثر حتى نَدخل بين هذه الأسلاك، فنرى بناءً رائع التناظر والانسجام، ونرى أنّ كلّ سلك مِنْ هذه الأسلاك الطويلة يتألف مِنْ حَبلَين طويلَين ملتفَّين حول بعضهما بشكل لولَب ثنائي، وبينهما دَرَجات متقابلات مثل دَرَجات سُلَّم طويل يلتف حول نفسه بانتظام وتناظر جميل. ونجد أنّ درجات السلَّم إنما تتألف من أربع مواد متقابلة، تلتقي هي أيضاً بدورها زوجاً زوجاً دون أنْ يلتقي أي منها بغير الزوج الذي ينسجم معه في المحافظة على تناظر وانتظام السلم اللولبي. وندرك أننا قد وصلنا إلى أعماق سر الحياة الذي وَصَفَه لنا واطسن وكريك في تركيب الحمض النووي DNA.
رسم يوضح تفاصيل بُنية الصبغيات والحمض النووي DNA في نواة الخليّة
الصبغيات
تتركَّز المادة الوراثية في الصبغيات داخل نواة الخليّة. وقد اكتَشف العلماء أنّ الصبغيات لا تتألف فقط من الحموض النووية، بل يَدخل في تركيبها أيضاً مواد بروتينية، وقليل من الألياف التي تعطيها هيكلها وشكلها. عرفنا أنّ الوظيفة الأساسية للحموض النووية هي التكاثر ونقل الصفات والأوامر أو المعلومات الوراثية.
ويبدو أنّ لبعض البروتينات في الصبغيات دوراً في تنظيم عملية تضاعف وتكاثر الحموض النووية أيضاً، بتنشيطها أحياناً، أو بتَثْبيطِها أحياناً أخرى.
تلتف جزيئات الحمض النووي DNA في الصبغيات حول نفسها وحول بعضها في شبكة كثيفة متداخلة بحيث يمكن حشر طولها الكبير في أصغر حجم ممكن داخل النواة. ولا يَتَّضِح شكل الصبغيات كجُسَيمات منفصلة إلا أثناء مراحل انقسام الخليّة حين تنفصل الصبغيات عن بعضها، ويتضاعف كلٌّ منها قبل أنْ تنقسم الخليّة، وتَذهب نسخة من كل صبغي في الخليّة الأم إلى كلٍّ مِنَ الخليّتين الناتِجتين عن الانقسام. يستطيع العلماء وقف انقسام الخلايا في إحدى المراحل باستخدام بعض الأدوية والمواد الكيميائية، ويتمكَّنون بذلك من عدِّ الصبغيات ودراسة أشكالها.
أهمية عدد وشكل الصبغيات المميز في كل نوع
أظهرتْ دراسة الصبغيات في الكائنات الحيّة صفة أساسية مهمة، وهي أنّ عدد وشكل الصبغيات متماثل تماماً في كافة أفراد النوع الواحد، بحيث يمكن تمييز كل نوع من أنواع الكائنات الحية مِنْ عدد وشكل الصبغيات في خلايا جسمه. وفسَّرتْ تلك الظاهرة سبب عدم إمكانية التزاوج بين الأنواع المختلفة من الكائنات الحية، فلا يمكن التزاوج مثلاً بين كلب وقطة، أو بين أزهار البرتقال والتفاح، لأنّ مثل ذلك التزاوج سيُنتِج خلايا ذات عدد مختلف من الصبغيات ذات الأشكال غير المتوافقة مع أي من الوالدين.
وقد يَحدث في بعض الأحيان تزاوج غير طبيعي بين الأنواع المختلفة ويُنتج كائنات حيّة جديدة، لعل أشهرها تهجين (تزاوج) ذكر الحمار مع أنثى الحصان الذي يَنتج عنه توليد البغل. عدد صبغيات الحمار 63، وعددها في الحصان 62، بينما عددها في البغل 63، وأشكال الصبغيات في البغل مختلفة وغير متوافقة بشكل أزواج متماثلة، كما هو الحال في الكائنات الحية الطبيعية، وربما يفسِّر ذلك سبب عدم قدرة البغال على التناسل.
صبغيات الإنسان
اكتَشف العالِم تشي هو سنة 1956 العددَ الصحيح للصبغيات عند الإنسان، ووَجد أنها تتجمع في 23 زوجاً رتَّبها ورقَّمها حسب أطوالها. منذ ذلك الحين، أَصبحتْ طرق تحضير الصبغيات وفحصها مجهرياً أسلوباً مطبقاً في كثير من المختبرات الطبية، وأَصبح لها دور مهم في تشخيص الأمراض الوراثية. تُصَنَّف صبغيات الإنسان في مجموعتين رئيسيتين، تَضمّ الأولى 22 زوجاً وتُسمى الصبغيات الجسمية، وتَضمّ المجموعة الثانية زوجاً واحداً وتُسمى الصبغيات الجنسية، وذلك لأنها تحدد جنس المولود.
فهناك نوعان فقط من الصبغيات الجنسية هما: الصبغي X والصبغي Y. في الحالة الطبيعية، تحتوي خلايا جميع الإناث على الصبغيات الجنسية بشكل زوج متماثل وفق النمط XX. أما في الذكور فتحتوي الخلايا على زوج الصبغيات الجنسية بشكل زوج مختلف وفق النمط XY. أي أنّ وجود الصبغي Y يجعل جنس المولود ذكراً، وغياب هذا الصبغي يجعل المولود أنثى. كما يعني ذلك أنّ جميع بويضات التكاثر التي تُنتِجها الأنثى تنقل نوعاً واحداً من الصبغيات الجنسية هو الصبغي X، بينما تكون نطاف الذكر مختلفة، فنصفها يَنقل الصبغي الجنسي Y والنصف الآخر يَنقل الصبغي الجنسي X. ولذا يمكننا القول علمياً أنّ نطاف الرجل هي التي تُحدِّد جنس المولود.
كَشَفَ برنامج خريطة المادة الوراثية عند الإنسان تسلسل مواد الحمض النووي DNA في جميع الصبغيات، ومعرفة توزّع بعض المورثات عليها (الجينات). تتفاوت الأهمية الطبية لكلٍ مِنَ الصبغيات بحسب عدد ونوع المُوَرِّثات التي يحملها. ولصبغي الذكورة Y أهمية خاصة بسبب وجود مُوَرِّثات خاصة يؤدي وجودها ونشاطها إلى تحفيز صنع الخصيتين والهورمونات الذكرية.
كما يحمل مُوَرِّثات (جينات) لصفات أخرى مختلفة، وهو كثير التعرض للتغيرات الجديدة (الطفرات) التي يمكن أن تؤدي إلى الأمراض. ولصبغي الأنوثة X أيضاً أهمية طبية خاصة بسبب حمله لبعض المُوَرِّثات التي تنقل بعض الأمراض الوراثية، مثل مرض الناعور Hemophilia الذي يؤدي إلى حدوث النزف المتكرر. أما أكبر الصبغيات وأطولها فقد أُعطي الرقم 1، ويَحمل حمضه النووي حوالي 250 مليون زوج من المواد الأساسية (الدَّرجات)، وفيه 2000-4000 مُورِّثة، وجِدَ أنها تتعلق بأكثر من 350 مرضاً، مثل مرض ألزهايمر Alzheimer Disease، وسرطان الثدي، والصمم، وصغر الجمجمة، وداء باركينسون Parkinson Disease، وسرطان البروستات...
صورة لأزواج الصبغيات عند الإنسان مُرتَّبة حسب طولها، ويلاحَظ وضع أكبر الصبغيات 1 في أعلى الصورة إلى اليسار، ووضع الصبغيات الجنسية XY في أسفل الصورة إلى اليمين
هل هناك علاقة بين الصبغيات وحدوث بعض الأمراض؟
علاقة الصبغيات ببعض الأمراض كانت معروفة منذ أواخر القرن التاسع عشر، فقد لاحَظ العالِم ثيودور بوفري Theodor Boveri (1862-1915) أنّ وجود جميع الصبغيات سليمة وكاملة ضروريٌ لكي يتم تطور الجنين بنجاح. كما افتَرَض سنة 1902 أنّ الورم الخبيث (السرطان) ربما يبدأ من خليّة واحدة يتغير فيها تركيب الصبغيات بحيث تنقسم هذه الخلية وتتكاثر عشوائياً دون انضباط، وكان يُؤمِنُ بأنّ التعرض للإشعاع وبعض الأضرار الفيزيائية أو الكيميائية أو الجرثومية ربما يؤدي إلى اضطراب انقسام الخلايا وتكاثرها بشكل غير منضبط، وبالتالي نشوء الأورام الخبيثة.
وقد ثبتتْ صحَّة بعض هذه الآراء مع تطور الدراسات العلمية. وبالنظر إلى تقارب وتزاحم والتفاف سلاسل الحمض النووي DNA في الصبغيات، ليس من المُستغرَب حدوث كثير من التلاصق والانتقال والتغيّر المتكرر في تسلسل موادها الأساسية، مما يؤدي بالتالي إلى حدوث تغيرات كثيرة في الأوامر الوراثية (طفرات)، وقد لاحظ العلماء عدم استقرار التركيب الكيميائي للحموض النووية وسرعة تغيرها وتفككها، وافترضوا وجود آلية تضبط استقرارها في الخلايا الحية.
وتوقّعوا أنّ بعض الأمراض الوراثية وأمراض السرطان قد تَحدث نتيجة تغيّرات في تركيب الحموض النووية. اكتشَف العلماء بعض هذه الأمراض بالفعل، وهناك أبحاث كثيرة مكثَّفة تُجرى هذه الأيام في كثير من مراكز الأبحاث في العالَم تدرس العلاقة بين التغيرات التي تَحدث في تركيب الحموض النووية ووجود بعض أمراض السرطان. ويمكن الاستفادة من هذه المعلومات في التوصّل إلى علاجات مناعية نوعية قد تساعد في المستقبل القريب في علاج هذه الأمراض. كما اكتشَف العلماء بالفعل وجود مواد وإنزيمات تساعد على تصليح التغيرات الكيميائية التي تَحدث في الحموض النووية داخل الخلايا الحية، وتوصلوا إلى اكتشاف أنّ حدوث خلل في عملية إصلاح الحموض النووية ربما يؤدي إلى ظهور بعض الأمراض.
وتقديراً لأبحاثهم المهمة في دراسة إصلاح الحموض النووية في الخلايا الحية، حَصَل العالِم السويدي توماس روبرت ليندال Thomas Robert Lindhal (1938) والأمريكي بول لورنس مودريش Paul Lawrence Modrich (1946) والتركي عزيز سنقر Aziz Sancar (1946) على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 2015.
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني