ساد الاعتقاد بين العلماء حتى القرن التاسع عشر أنّ الخلايا الحية تتكاثر بنشوء خلايا جديدة داخل الخلايا التي تسبقها، وذلك باستخدام مواد موجودة داخل الخليّة، أو بمواد أخرى غير حيّة موجودة خارجها، وذلك بطريقة تشبه تَشكّل البلّورات المنتظمة في بعض المواد غير الحيّة. إلا أنّ ذلك الاعتقاد تغيَّر جذرياً على يد العالِم الألماني والتر فليمينغ Walther Flemming (1843-1905) الذي كان رئيس قسم التشريح في جامعة كيل.
العالِم الألماني والتر فليمينغ Walther Flemming (1843-1905)
أَثبتَ فليمينغ أنّ الخلايا تتكاثر بالانقسام. بينما كان يفحص زعانف وخياشيم حيوان السلامندر تحت تكبير المجهر، لاحظ فليمينغ وجود كتلة صغيرة داخل كل خليّة تتلون بشكل جلّي واضح، أَطلق عليها اسم الكروماتين Chromatin (أي المادة المُلَوَّنَة). وعرف أنها تتكون مِنْ خيوط متشابكة داخل نواة الخليّة، وَصَفها فيما بعد بشكل أكثر دقة عالِم الأحياء الألماني ويلهليم فون فالداير-هارتز Wilhelm von Waldeyer-Hartz (1836-1921) وأَطلق عليها اسم الصّبغيات Chromosomes (أي الأجسام المَصبوغة أو المُلَوَّنَة).
درَس فليمينغ تكاثر الخلايا وانقسامها وتَوزُّع هذه المواد الملوَّنة أثناء انقسام الخلايا، ووَضَعَ نتائج أبحاثه في كتابه المهم الذي نُشر سنة 1882 تحت عنوان "الخليّة والنواة والتكاثر". ذَكَرَ فليمينغ في ذلك الكتاب لأول مرة مبدأ: "تَنشأ نواة الخليّة مِنْ نواة خليّة سبَقَتها"، بصيغة مشابهة للمبدأ الذي ذَكَره فيركوف عن كامل الخليّة الحيّة مِنْ قَبل. كما صاغ فليمينغ اسم الانقسام الخلوي التام Mitosis، الذي يعني باللغة اليونانية: الخيوط المتشابكة، لوصف تكاثر خلايا الجسم بهذه الطريقة، وذلك بسبب تشكّل خيوطٍ داخل الخليّة أثناء انقسامها، واستطاع رؤية هذه الخيوط تحت تكبير المجهر.
رسم توضيحي للصبغيات في نواة الخليّة كما نُشر في كتاب فليمينغ 1882
رسم توضيحي لمراحل انقسام الخليّة بطريقة الخيوط المتشابِكة كما نُشر في كتاب فليمينغ 1882
رسم توضيحي لمراحل الانقسام الاختزالي في الخلايا التناسلية التي تُنتج النطاف والبويضات
الاختزالي في الخلايا التناسلية التي تُنتج النطاف والبويضات
لمْ يعرف فليمينغ شيئاً عن أبحاث معاصِرِه ماندِل في الوراثة، ولمْ يَربط نتائج أبحاثه بأية استنتاجات تتعلق بانتقال الصفات الوراثية بين الأجيال أثناء انقسام الخلايا. ومع ذلك يُعتَبَر اكتشافُ الصّبغيات، ووصْفُ فليمينغ لانقسام الخليّة، واحداً مِنْ أهم مئة اكتشاف عِلمي في التاريخ، وأحد أهم عشرة اكتشافات في عِلم بيولوجيا الخليّة.
طريقة مختلفة لانقسام الخلايا!
في سنة 1876 وصَفَ عالِم الحيوان الألماني أوسكار هيرتويغ Oscar Hertwig (1849-1922) طريقةً
مختلفة في انقسام الخلايا أثناء دراسته بيوض قنفذ البحر. وتكررتْ تلك الملاحظة لدى عالِم الحيوان البلجيكي
إداورد فان بيندين Edouard Van Beneden (1846-1910) أثناء دراسة بيوض دودة الأسكاريس سنة 1882. إلا أنّ علاقة هذه الطريقة المختلفة في انقسام الخلايا بالتكاثر والخلايا التناسلية والصّبغيات لمْ تتضح إلا بعد نَشر دراسات وايزمان سنة 1890، حين وَصَفَ الطريقة المختلفة التي تتبعها الخلايا التناسلية في انقسامها.
وأَوضح أنّ انقسام كل خليّة مِنْ خلايا الجسم العادية (غير التناسلية) تَنتج عنه خليَّتان متماثلتان تحتوي نواة كل منهما على صبغياتٍ ذات عدد مضاعف مثل بقية خلايا الجسم. وبَيَّن أنّ انقسام الخلايا التناسلية، مثل البيوض والحيوانات المنوية، يختلف عن انقسام خلايا الجسم بأنه يتم على مرحلتَين، بحيث يؤدي انقسامُ كل خليّة تناسلية إلى انتاج أربع خلايا تناسلية، تحتوي نواةُ كل منها على نصف عدد الصّبغيات فقط.
كما بَيَّن أنّه في عملية التلقيح، يتم التحام النطفة بالبويضة، ويكتمل بالتقائهما عدد الصّبغيات التام، ومِنْ ثَمّ تتكاثر خلايا الجَنين وتتطور إلى تكوين الكائن الحيّ الذي نَشأت منه. في سنة 1905 أُطلق اسم انقسام الخليّة الاختزالي أو المُخْتَصِر Meiosis على انقسام الخلايا التناسلية الخاصّ الذي يؤدي إلى انتاج البويضات والحيوانات المنوية في الكائنات الحية التي تتناسل بالتكاثر الجنسي.
رسم توضيحي لمراحل الانقسام الاختزالي في الخلايا التناسلية التي تُنتج النطاف والبويضات
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني