هل الإنسان مُسَيَّر أم مُخَيَّر؟ قد يتصور المرء أنّ الأوامر الوراثية التي تحملها خلايا جسمه تحَدِّدُ شكله وهيئته، وربما ذكاءه ونفسيته وعاطفته وشخصيته. وكأنها نوع مِنَ الجَبرية أو الحتمية العلمية المفروضة عليه فرضاً، إذ لا يختار المرء ما يرثه من الصبغيات والحموض النووية في نطاف أبيه وبويضة أمه! وبشيء مِنَ الإسقاطات والاستنتاجات الفلسفية، قد يَتصور المرء أنّ ما تعلمناه حتى الآن مِنْ عِلم الوراثة يدعم فلسفة الجَبرية واستنتاجاتها الأخلاقية والدينية.
ولكن على الرغم مِنْ أنّ الأوامر الوراثية صارمة، وتُسيطِر بدقة متناهية على تركيب البروتينات في الخليّة، وتُحدِّدُ بالتالي شكلها ووظائفها ونشاطها، إلا أنّ المُوَرِّثات لا تؤدي بالضرورة دائماً إلى الحصول على النتائج العامة ذاتها في الكائن الحي. ويرجع ذلك إلى وجود مُوَرِّثتين لكل صفة من الصفات الوراثية، واحدة تأتي من الأم والثانية تأتي من الأب. وتختلف القوة أو الضعف النسبي بينهما حسب قوة أو ضعف الصفة المنقولة، مما ينعكس على مدى ظهور تأثيرها الحقيقي على الجسم.
فهناك صفات قوية أو قاهرة، مثل تَحَمُّل مشتقات الحليب الذي يُمَثِّل صفة قاهرة موجودة في أغلب سكان أوروبا وأمريكا بينما تكاد تكون معدومة عند الهنود الحمر والصينيين. وهناك صفات ضعيفة أو مقهورة، مثل حمى البحر الأبيض المتوسط أو فقر الدم المِنْجَليّ. وهناك صفات تشترك في تكوينها أكثر من مُوَرِّثة واحدة، مثل لون الشعر ولون العينين ...
وماذا عن تأثير البيئة؟
كما أنّ الظروف البيئية التي يَنشأ فيها المرء ويَنمو ويَتطور ويَتعلم تؤثِّر أيضاً في فاعلية المُوَرِّثات وقدرتها على تنفيذ أوامرها الوراثية. بل وتؤثِّر الظروف البيئية وتفاعلاتها مع البُنْيَة الوراثية على التكوين النفسي والفكري والشخصي والجسمي للكائن الحي. ولذلك نرى بعض الاختلافات الشخصية والنفسية والشكلية الطفيفة في التوائم الحقيقية على الرغم من وجود المادة الوراثية ذاتها في كل منهما.
كذلك سَجَّلَت الاحصائيات السكانية مثلاً زيادة كبيرة في طول اليابانيين الذين هاجروا وعاشوا في أمريكا خلال جيل واحد بالمقارنة مع أقرانهم وأقربائهم الذين عاشوا في اليابان، ولوحِظ مثل ذلك في الصينيين والهنود. يُفَسِّر العلماء ذلك بتحسّن الغذاء وظروف المعيشة بشكل عام. كما سُجِّلَتْ ملاحظات مماثلة في سكان أستراليا الأصليين بعد تحسّن تغذيتهم وظروف معيشتهم. وبالمثل سُجِّلَتْ زيادة كبيرة في حدوث أمراض السمنة والداء السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب في هذه الفئات.
وهكذا يمكن القول أنّ النَّمَط الوراثي Genotype يؤثِّر ويَتفاعل مع النَّمَط الظاهري Phenotype للمرء بحيث أنّ البُنْية الوراثية التي يَحملها، والظروف البيئية التي يَنشأ فيها، تشَكِّلان معاً ذاتيته الخاصة المميزة، جسمه وشكله العام وشخصيته، وكل ما فيه من انفعالات وأفكار وعواطف ونفسية خاصة. أي أنه يوجد جانب جَبريّ وراثيّ في الإنسان ليس له فيه أي اختيار، وفي الوقت نفسه إنّ البُنْيَة المعقَّدة والمركَّبة لهذا الكائن الفريد، وقدرته الواضحة على تغيير كثير من الظروف التي يعيش فيها، تَسمح بوجود مساحة من حرية الاختيار، وبالتالي تَحَمُّل المسؤولية عن تلك الاختيارات.
إذا آمنا بأنّ الحياة هي اختبار وامتحان للإنسان، يمكن القول: لا يختار المرء أسئلة الامتحان، وإنما عليه التوصل إلى الإجابات الصحيحة. وهكذا يمكن أنْ نَعتبر الأسئلة الإجبارية في امتحان الحياة هي المادة الوراثية التي نولَد معها، ومكان وزمان الولادة ... أما اختياراتنا الإرادية التي نقوم بها في حياتنا فهي إجاباتنا على الأسئلة والتحديات التي تواجهنا بها الحياة. ما هي النسبة بين ما هو جَبري وما هو اختياري في حياة إنسان بعينه؟ ذلك ما لا يستطيع عِلم الإنسان تقديم إجابة عليه، والحُكم في ذلك للعادل المطلَق الذي يَعلم الغيب في السماوات والأرض، ولا يَظلِم ربُّكَ أحداً.
ويبقى سؤال ... أم أسئلة؟
تنشأ جميع خلايا جسم الإنسان في الأصل من تكاثر خليّة واحدة تتشكل عند اتحاد المادة الوراثية التي تَحملها نطفة الأب، بالمادة الوراثية التي تحملها بويضة الأم، وبالتالي فإنّ جميع خلايا الإنسان تحمل عدداً متماثلاً من الصبغيات، التي تحمل بدورها تركيباً متماثلاً وتسلسلاً واحداً في الحموض النووية التي تحتويها، أي أنها تحمل المعلومات والأوامر الوراثية ذاتها، فكيف تختلف الخلايا فتصبح بعض الخلايا عضلية، وأُخرى كبديّة، أو عظمية، أو رئوية، أو قلبية، أو عصبية ..؟
ما الذي يوجِّه بعض الخلايا لكي تُنَفِّذَ بعض الأوامر الوراثية وتُهمِل بعضها الآخر لتُصبح مثلاً خليّة جِلدية؟ أو عضلية؟ أو عظمية؟ ما الذي ينظِّم عملية تخصص الخلايا بحيث تُتَرجَم الأوامر الوراثية لكي ينشأ جسم الإنسان صحيحاً كامل الأعضاء؟ لا بد من وجود آليات تنشِّط عمل بعض المورثات (الجينات) وتُثَبِّط أو تَمنَع عمل بعضها الآخر لكي يتحقق تَخَلُّقُ جسم الكائن الحي بكافة أعضائه وأشكاله.
وكأن الخلية الأولى التي تتشكل عند التقاء النطفة بالبويضة لا تحتوي فقط على المعلومات والأوامر الوراثية، بل تحمل أيضاً برنامجاً خاصاً لمراحل إنشاء وتطوير وتَخَلُّق الجنين للوصول إلى المولود التام، ثم برنامج نموه وتطوره بعد الولادة حتى تمام بُنيَته في الإنسان البالغ! على الرغم من أننا قد عرفنا كثيراً من المعلومات عن كيفية نقل الصفات الوراثية في تركيب الحموض النووية، وعرفنا كيف تتحكم المُوَرِّثات في عملية صنع البروتينات في الخليّة، وكيف تُسيطِر النواة على النشاط الحيوي في الخليّة، إلا أنّنا لا نعرف كيف يتم تنظيم عمل المُوَرِّثات ذاتها أثناء الحمل وبعد الولادة، وكيف تتحول الخلايا الجَذعية الجنينية المتماثلة تماماً في تركيبها الوراثي إلى خلايا الأعضاء المختلفة في الجسم. وما زلنا نحتاج إلى كشف كثير من المعلومات في عِلم تخصص الخلايا.
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني