أمراض المناعة الذاتية هي ثالث فئة من الأمراض الأكثر حدوثًا عند الإنسان بعد أمراض الأوعية الدموية وأمراض السرطان. يصاب نحو 24-50 مليون أمريكي بأحد أمراض المناعة الذاتية، مثل الذئبة الحمامية، والروماتيزم، والتصلّب المتعدد ... وغيرها، كما أن حوالي 4 من كل خمسة من هؤلاء المرضى هم من النساء، فمثلا، نسبة حدوث مرض الذئبة الحمامية لدى النساء والرجال هي 9 إلى واحد. فلماذا يَحدث ذلك؟ ما هو السبب الذي يجعل النساء أكثر عُرضَة لأمراض المناعة الذاتية من الرجال؟
تمت دراسة العلاقة بين هذه الأمراض والهرمونات بشكل واسع، ولكن اختلاف الهرمونات بين النساء والرجال ليس كافيًا لتفسير هذا التَّباين، لأن الهرمونات الأنثوية موجودة أيضًا عند الرجال، وكذلك توجَد هرمونات الذكورة عند النساء وتزداد مع التقدّم في العمر، فلماذا تَحدث أمراض المناعة الذاتية أكثر عند النساء؟ وهل للوراثة دور في ذلك؟
أُجريت دراسةٌ جديدة في جامعة ستانفورد الأمريكية ربما تلقي الضوء على السبب الذي يمكن أن يفسّر هذه العلاقة، وأنها ربما ترجع إلى اختلاف المادة الوراثية عند النساء، وبالذات بسبب وجود اثنَين من الصّبغي الجنسي X لدى جميع النساء.
كيف تختلف المادة الوراثية بين النساء والرجال؟
تحتوي كل خلية من خلايا أجسامنا على نواة تضمُّ في داخلها المادة الوراثية التي تتلقاها من الوالِدين. تتألف المادة الوراثية لجميع الكائنات الحيّة من حموض نووية، خاصة الحمض النووي DNA، تتجمَّع عند الإنسان في 23 زوجًا من الصّبغيات (الكروموزومات). هناك زوج من الصّبغيات التي تُحدِّد جنس المولود هما الصبغيات الجنسية التي تحمل الرقم 23، وهي نوعان: الصّبغي X والصّبغي Y.
تحتوي نواة كل خلية من خلايا جسم الأنثى على صبغيَّين متماثليّن من النوع X، بينما تحتوي نواة كل خلية من خلايا جسم الذَّكَر على الصّبغي X والصّبغي Y. يحمل الصّبغي المؤنّث X عددًا كبيرًا من المُورِّثات (الجينات)، بينما يحتوي الصبغي المذكّر Y على عدد قليل منها. وهذا يعني أن كل خلية من خلايا جسم المرأة (الأنثى) تحمل جرعَة مضاعفة من المُورِّثات (الجينات) المَحمولة على الصّبغي المؤنّث X.
تقوم مواد وبروتينات معينة بشكل طبيعي في خلايا جسم المرأة بكَبح نشاط واحِد من الصّبغيَّين X لئلا يَحدث نشاط مضاعَف للمُورِّثات (الجينات) المَحمولة على هذا الصّبغي.
تقوم جزيئات خاصة من الحمض النووي RNA بكَبح نشاط أحد الصّبغيَّين X في خلايا جسم المرأة. تسمّى هذه الجزيئات من الحمض النووي Xist، وتتوضَّع في نقاط محدَّدة على الصّبغي المؤنّث الزائد X، وتُحفِّز على ارتباط بروتينات معينة بها لتكوين كتلٍ من البروتينات والحمض النووي Xist لكي تَكبت أو تثبِّط نشاط المُورِّثات (الجِينات) المضاعَفة الموجودة على هذا الصّبغي.
ما هي علاقة الحمض النووي Xist بأمراض المناعة الذاتية؟
نُشرت نتائج دراسة جديدة في المجلة العلمية Cell أظهَرت وجود مضادات أجسام مناعية ضد جزيئات الحمض النووي Xist والبروتينات التي تتعلَّق به لدَى المصابين بأمراض جلدية سببها خَلل في المناعة الذاتية. أي أن نشاط الخلايا المناعية يتوجَّه ضد مواد توجَد في جسم الإنسان بشكل طبيعي. فمن المفروض أن تميّز خلايا جهازنا المناعي بين ما هو ذاتي طبيعي فلا تهاجِمه، وما هو أجنبي غريب فتهاجِمه وتدمِّره. ولكن خطأً يَحدث في التمييز بين ما هو ذاتي طبيعي، وما هو أجنبي، ربما بسبب تشابه في التركيب الكيميائي، يؤدي إلى أن تهاجِم بعض خلايا المناعة خلايا طبيعية في أجسامِنا وتسبب أذيتها وتدميرها، مثلما يَحدث في أمراض المناعة الذاتية، ومرض السكري من النوع الأول ...
ما الذي درَسه البحث الجديد في المناعة الذاتية عند الإناث؟
كما ذكَرنا، توجَد مركَّبات الحمض النووي Xist والبروتينات المرتبطة به في خلايا أجسام الإناث لكي تكبَح نشاط المُورِّثات في أحَد الصبغيَّين المؤنثَين X، ويبدو أن هذه المركّبات تُحفِّز الخلايا المناعية لكي تصنع أجسامًا مضادة لها، مما يسبب حدوث أمراض المناعة الذاتية، مثل الروماتيزم والذئبة الحمامية ...
لدراسة هذا الاحتمال، قام باحثون في جامعة ستانفورد الأمريكية الشهيرة بدراسات على الفئران أظهَرت بالفعل وجود أجسام مضادة ضد 78 من 81 بروتين مرتَبط بالحمض النووي Xist الخاص بالمادة الوراثية عند الإناث في الفئران. كما اكتشَفوا وجود أجسام مضادة ضد 30 من هذه البروتينات عند النساء المصابات بأمراض مناعة ذاتية.
تمكّن الباحثون من إحداث حالات مرَضية تشبه مرَض الذئبة الحمامية عند الفئران بتَحفيز صنع أجسام مضادة ضد مركبات الحمض النووي Xist والبروتينات المرتبطة به عند ذكور الفئران، مما يرجّح وجود علاقة بين هذه الأجسام المضادة، وزيادة حدوث هذا المرض، وزيادة شدة أعراضه.
ولكن، إذا كان مجرد وجود مركبات الحمض النووي Xist والبروتينات المرتبطة به سببًا كافيًا لتحريض خلايا المناعة لكي تصنع مضادات لها، لأصيبَتْ جميع النساء بأمراض المناعة الذاتية!
إذًا، لا بدّ من وجود عامل بيئي يؤدي إلى تسرّب هذه المركّبات المعقّدة من الحمض النووي Xist والبروتينات المرتبطة به من داخل نواة الخلية إلى خارجها لكي تتعرّف عليها خلايا المناعة، وتصنع أجسامًا مضادة لها. ولكن، كيف تتسرّب هذه المركّبات من نواة الخلية إلى خارج الخلايا؟ يَفترض الأطباء دائمًا وجود عامل بيئي يؤدي إلى تخريب بعض الخلايا، وبالتالي تسرّب هذه المركّبات إلى خارج الخلايا، وتحريض خلايا المناعة على صنع أجسام مضادة، تؤدي إلى حالة التهابية مزمِنة، تظهَر بشكل مرَض من أمراض المناعة الذاتية. هناك أسباب بيئية معروفة سابقًا عن علاقة بعض أمراض المناعة الذاتية بحدوث بعض الأمراض البيئية، مثل علاقة الإصابة بفيروس إبشتاين-بار وحدوث مرَض التصلّب المتعدد.
أمراض المناعة الذاتية.. هل أجريت مثل هذه الدراسات عند الإنسان؟
إضافة إلى الأبحاث عند الفئران، قام الباحثون في جامعة ستانفورد بفحص عيّنات الدم من 100 مصاب ومصابة بأحَد امراض المناعة الذاتية، واكتشَفوا بالفعل وجود مضادات أجسام مناعية ضد بعض المركّبات المعقّدة من الحمض النووي Xist والبروتينات المرتبطة به، ولم تكن مثل هذه المضادات معروفة من قَبل بوجود علاقة بينها وبين أمراض المناعة الذاتية.
ما هي الفوائد المتوقّعة من هذا البحث في التعامل مع أمراض المناعة الذاتية؟
- مزيد من فَهم آلية حدوث هذه الأمراض، وتفسير مفيد لظاهرة كثرة حدوثها عند النساء.
- إجراء مزيد من الدراسات للوصول إلى اختبارات تشخيصية جديدة لأمراض المناعة الذاتية.
- ربما يُساعد فَهم كيفية حدوث أمراض المناعة الذاتية، وعلاقتها بمضادات الأجسام التي كَشفَت عنها الدراسة، على التشخيص المبكر لبعض أمراض المناعة الذاتية، وربما وَضع خطط جديدة لعلاجها.
المصادر:
-
Xist ribonucleoproteins promote female sex-biased autoimmunity: Cell
-
A Clue on Why Lupus, Other Autoimmune Diseases Strike Far More Women Than Men |