صحــــتك

قصة اكتشاف الخلية الحية ونواتها المهمة

مكونات الخلية
نواة الخلية الحية التي تحتوي على الحموض النووية والمورثات

اكتشف العلماء في القرن السابع عشر أنّ جميع الأجسام الحية مِنْ نباتات وحيوانات لا تتألف من قطعة واحدة أو أعضاء منفصلة مُجَمَّعة كما يبدو ظاهرياً، بل إن جسم كل كائن حيّ مَبنِيٌّ مِنْ ملايين الوحدات الصغيرة التي أطلقوا على الواحدة منها اسم الخليّة. لمْ يتمكنوا مِنْ رؤية الخلايا بسبب صغرها، إذ لا يمكن رؤيتها بالعين المُجَرَّدَة عادة. وكان العالِم الإنكليزي الشهير روبرت هوك Robert Hooke (1635-1703) هو أول مَنْ شاهد هذه الخلايا ورَسَمَها سنة 1665 عندما فَحَص تكوين مادة الفلّين النباتية باستخدام مجهر خاص استطاع صنعه وتطويره لرؤية الأجسام تحت التكبير. استخدَم هوك اسم الخليّة في وصف الحُجيرات الدقيقة التي شاهدَها تحت المجهر.

cork2.GIF (25211 bytes)

خلايا الفلّين تحت تكبير المجهر كما رسمها روبرت هوك 1665

العالِم الإنكليزي روبرت هوك (1635-1703)

رؤية الأحياء الدقيقة

كان الهولندي أنتوني فيليبس فان لوفينهوك Antonie Philips van Leeuwenhoek (1632-1723) شاباً يتاجر في الأقمشة، ويَستخدم أحياناً بعض العَدَسات المُكبِّرة لكي يفحص بُنية الأقمشة التي يشتريها بدِقةٍ أكبر مِنْ مجرد النظر إليها بالعين المُجَرَّدَة. استهوته صناعة العَدَسات، فأخذ يُحَسِّنها ويُطورها ويزيد إتقان صنعها، حتى استطاع صنع عَدَسات كانت الأفضل في العالم بقدرتها الفائقة على التكبير والوضوح. تَحوَّل اهتمامه ذات يوم مِنْ فحص الأقمشة إلى فحص كثير مِنَ المواد الأخرى، مثل الماء والأخشاب والفلين وأوراق النباتات والفاكهة واللحم والحشرات ودم بعض الحيوانات ودم الإنسان ... أدهشته رؤية البُنية الدقيقة لهذه المواد، وكان يجيد الرسم ويوثّق كل ما يراه برسم أشكالها ووصف تفاصيلها، ثم يرسل هذه الرسوم والأوصاف بشكل أوراق وصور إلى الجمعية الملكية في لندن. اهتمّت الجمعية بنشر رسوماته ورسائله التي بلغ مجموعها 190 رسالة تركّزتْ جميعها في وصف كل ما رآه تحت تكبير عَدَساته. استمر في تحسين العَدَسات حتى وصل إلى قوة تكبير بلغتْ 275 مرّة. وأَصبح مرجعاً عالمياً في الدراسات المجهرية.

الخلية النباتية

مفاجأة مجنونة غير متوقعة

على الرغم من النجاح الباهر الذي لاقته رسومات ورسائل لوفينهوك إلى الجمعية الملكية في لندن، إلا أنهم شككوا بصحة ملاحظاته ونتائجه عندما وَصَفَ أحياءً دقيقة يتألف كل منها مِنْ خليّة واحدة، شاهدها أثناء فحص قطرة مِنْ ماء الشارع تحت تكبير المجهر، ولاحظ أنها تعجّ بكثير مِنْ هذه الكائنات المتحركة المتناهية في الصغر التي أطلق عليها اسم الوحوش الصغيرة. لمْ يعرف العِلم قبل ذلك وجود مثل هذه الكائنات، فأنكروا وجودها وشككوا بصحة نتائجه، بل حتى بنزاهته وقواه العقلية! فأرسلوا لجنة ضمَّتْ راهبين وأربعة علماء إلى هولندا للتأكد مِنْ دقة ملاحظة لوفينهوك وسلامته العقلية! أَكّدت اللجنة صحة نتائج لوفينهوك سنة 1677، وانُتخِب عضواً في الجمعية الملكية سنة 1680 وكان فخوراً ومعتزاً بذلك التقدير خاصة لأنه لمْ يَعتبر نفسه مِنَ العلماء، وأنه لمْ يحضر أي اجتماع لهذه الجمعية في حياته. يُعتَبر لوفينهوك مؤسس عِلم الأحياء الدقيقة Microbiology، وأول مَنْ وصف الكائنات وحيدة الخليّة والجراثيم والبكتيريا والفطريات، ورَسَمَ ألياف العضلات والكريات الحمر في دم الحيوانات والإنسان، ووصَفَ النطاف في ماء السائل المنوي، ورَسَم العيون المركَّبَة لبعض الحشرات، ووضَّح دورة حياة الذباب والبراغيث والنمل.

الهولندي أنتوني فيليبس فان لوفينهوك Antonie Philips van Leeuwenhoek (1632-1723) طَوَّر استخدام التكبير بالمجهر وعِلم الأحياء الدقيقة

من فحص الأزهار إلى جائزة نوبل في الفيزياء

باستخدام التكبير تحت المجهر، تمكَّن عالِم النبات الاسكتلندي روبرت براون Robert Brown (1773-1858) من دراسة تركيب الخليّة، وشاهد أنها تحتوي بدورها على مكونات أصغر في داخلها. وفي سنة 1833 وَصَف براون وجود النواة في الخليّة النباتية، ووصِف ذلك أيضاً في الخلايا الحيوانية.

كانت النواة أول المُكَوِّنات التي اكتُشِفتْ داخل الخليّة لأنها عادة أكبر تلك المُكَوِّنات وأكثرها وضوحاً، خاصة بعد تلوين الخلايا بأصبغة خاصة تُستخدَم في المختبرات. وعلى هامش ملاحظاته هذه، كان براون قد وَصَفَ سنة 1827 أثناء فحصه غبار الطلع لبعض الأزهار البرية وجود حركةً عشوائية غريبة تقوم بها الأجسام الحية وغير الحية أثناء مشاهدَتها تحت المجهر.

سُمّيَتْ هذه الظاهرة: الحركة البراونية نسبة إلى عالِم النبات الذي كان أول مِنْ وصفها. لمْ يدرك براون آنذاك لها تفسيراً أو سبباً واضحاً، وفي سنة 1905 قدَّم عالِم الفيزياء الأشهر أينشتاين تفسيراً رياضياً دقيقاً للحركة البراونية بأنها نتيجة اصطدام حُبَيبات غبار الطلع بجزيئات الماء التي تتحرك باستمرار بحركة عشوائية نشيطة، وأن هذه الظاهرة تُثبت عملياً الوجود الفيزيائي الحقيقي للجزئيات والذرّات.

أَثبتَ الفيزيائي الفرنسي جان بابتيست بيران Jean Baptiste Perrin (1870-1942) بالتجربة سنة 1908 صحة حسابات أينشتاين في دراسته الحركة البراونية للجُسَيمات الدقيقة المعلقة في الماء، وأَثبتَ بذلك الطبيعة الذرّية للمادة. حَصَل أينشتاين على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1921 تقديراً لجهوده المتميزة في الفيزياء النظرية، وحَصَل بيران على تلك الجائزة أيضاً سنة 1926 تقديراً لجهوده في الإثبات التجريبي أن المادة تتألف مِنْ ذرّاتٍ وجزيئات.

وهكذا نرى تطبيقاً تاريخياً لكيفية تكامل العِلم البشري وتطوره مِنْ أبحاث متفرقة تبدو ألا علاقة لها ببعضها، فمِنْ تسجيلِ ظاهرةٍ بسيطة لَمَحَها الذهن المتوقد الدقيق الملاحظة لعالِم النبات براون أثناء دراسة بعض الأزهار، إلى التفسير الرياضي للحركة العشوائية للأجسام الدقيقة المُعَلَّقة في الماء الذي استَنبطه الذكاء اللّماح للفيزيائي أينشتاين، حتى حصلنا على إثباتٍ فيزيائي تجريبي قدَّمه لنا الفيزيائي بيران، وفهمنا أخيراً أنّ المادة ليست شيئاً مستمراً كما تبدو ظاهرياً، بل تتألف في حقيقة الأمر مِنْ ذرّات وجزيئات صغيرة متناثرة !

الخلية الحيوانية

لا تَنشأ الخليّة إلا مِنْ خليّة سبقتها

وَضَعَ العالِم الألماني الشهير رودولف لودفيغ كارل فيركوف Rudolf Ludwig Carl Virchow (1821-1902) المبدأ العام في عِلم الأحياء: " لا تَنشأ الخليّة إلا مِنْ خليّة سبقتها" سنة 1855. طَرح هذا العالِم كثيراً مِنَ المبادئ العلمية الأخرى، ويُعتَبر مؤسس عِلم الأمراض Pathology. كان فيركوف طبيباً وعالِم أحياء، ودارساً لعِلم الأحياء التاريخي وعلم الأنثروبولوجيا، ورائداً في علوم الصحة العامة والوبائيات والطب الاجتماعي وعِلم أمراض الحيوانات، كما كان كاتباً ومحرراً وسياسياً نشيطاً وعضواً في البرلمان الألماني.

استند فيركوف في التوصل إلى هذا المبدأ العام في عِلم الأحياء إلى ملاحظاته وأبحاثه، وإلى دراسات علماء سبقوه في اكتشافِ نواة الخليّة، وفي وصْفِ انقسام الخلايا وتكاثرها، ولكن الفضل يعود إليه في تأسيس هذا المبدأ وقبوله العلمي العام، وأكّد بذلك نتائج العالِم الفرنسي الشهير لويس باستور Louis Pasteur (1822-1895) في نظريته عن الجراثيم، وأنّ الكائنات الحية تَنشأ مِن كائنات حية، ولا تَنشأ بالتولد الذاتي مِن مواد غير حية. وكان فيركوف أول مَن انتبه إلى أنّ الخلايا المريضة، مثل خلايا السرطان، تنشأ في الجسم مِن خلايا كانت سليمة فيه. وهكذا رسَّخ فيركوف المبادئ الثلاثة الأولى في عِلم الخليّة وهي:

  1. الخليّة هي الوحدة الأساسية في بناء الكائنات الحيّة. ( يذكّرنا هذا بالمبدأ العام في الفيزياء أنّ الذرّة هي الوحدة الأساسية في بناء المادة، وبالطبع فالذرّة أصغر بكثير جداً مِنَ الخليّة، ولا يمكن رؤية الذرّة حتى بأقوى الميكروسكوبات المُكَبِّرة، بينما تتألف الخليّة مِنْ ملايين الذرّات والجزئيات المادية، ويمكن رؤيتها بالتكبير، أو حتى بالعين المجردة، فبيضة الدجاج مثلاً هي خليّة واحدة محمَّلة بكمية كبيرة مِنَ المواد المغذية التي يَستخدمها جنين الدجاج في تطوره ).
  2.  جميع الكائنات الحيّة تتألف مِنْ خليّة أو أكثر.
  3. لا تَنشأ الخلايا الحيّة إلا مِنْ خلايا حيّة سبَقَتها.

العالِم الألماني الشهير رودولف لودفيغ كارل فيركوف Rudolf Ludwig Carl Virchow (1821-1902)

 

ولكن، ماهو دور النواة في الخلية الحية؟ وكيف تتكاثر الخلايا؟ انتظرت الإجابة على هذه الأسئلة قرناً من الزمان قبل أن يتوصل العلماء إلى اكتشاف الحموض النووية والمورثات (الجينات) والصبغيات في نواة الخلية، وتوصلوا إلى إجابات علمية تفسر عملية تكاثر الخلايا وانتقال الصفات الوراثية في الكائنات الحية النباتية والحيوانية.

 

المصدر:

كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني

 

 

آخر تعديل بتاريخ
29 أكتوبر 2023
Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.