صحــــتك

بيتر مدَوَّر واكتشافاته الحاسمة في المناعة

المناعة
مناعة الجسم ضد الجراثيم والفيروسات والأجسام الغريبة

كيف يَعرف جهاز المَناعة في جسم المريض أنَّ الكُلية الجديدة المزروعة لديه هي جسمٌ غريب عنه؟ وأنها ليستْ جزءاً أصلياً مِنه؟ أو مثله؟ وكيف نختلف نحن البشر عن بعضنا رغم وجود شبه ظاهري فيما بيننا أحياناً؟ وكيف نتميز عن بعضنا بحيث لا يوجد تطابق تام بيننا إلا في التوائم الحقيقية؟ وكيف يستطيع جهاز المَناعة تخريبَ الكُلية الجديدة على الرغم من أنها مفيدة له؟

تعلَّم الأطباء عبر التاريخ طرقاً كثيرة للتعامل مع مناعة الإنسان والتحكُّم بها لكي تعمل لصالحه. ولعل أشهر هذه الطرق هي استخدام اللقاحات المختلفة للسيطرة على بعض الأمراض المُعْدِيَة، مثل الجُدَري وشلل الأطفال والسل والإنفلونزا ... التي كانت تُبيد ملايين من البشر في أوبئة وجائحات عالمية. ولكن ظلَّتْ جوانب كثيرة من نشاط المَناعة الطبيعية مجهولة وعَصيّة على الفهم حتى ظَهَرَ رجال عظام، ومنهم العالِم الكبير بيتر مدَوَّر Peter Medawar اللبناني الأصل، والعالِم الأسترالي ماك بورْنِت Mac Burnet اللذان أَطلَقتْ أبحاثهما الرائدة في النصف الثاني من القرن العشرين ثورة خطيرة في فهم المَناعة، ووَضَعت الأسس الثابتة لعِلم المَناعة.

المناعة والوراثة

لعل أهم الاكتشافات في عِلم المَناعة هو كشف ارتباطه الوثيق بعِلم الوراثة. فبالاستناد إلى المعلومات الهامة التي كشفها عِلم الوراثة في خمسينات القرن العشرين، تمكَّن علماء المَناعة من إدراك الأسباب الحقيقية وراء تميِّز كل فرد منا بالتركيب الخاص لأنسجة وأعضاء جسمه. وكشَفَ عِلمُ الوراثة ومعرفةُ التركيب الخاص للحموض النووية وجودَ مادة وراثية خاصة أو "بَصْمَة وراثية" يتميّز بها كل فرد منا عن كل فرد آخر مهما كانت درجة الشبه والقرابة بينهما. فلا تتطابق المادة الوراثية إلا في التوائم الحقيقية، ولذلك لا عجب أنّ أول عملية ناجحة لزرع الكُلية تمَّتْ سنة 1954 بزرع كليةٍ تبرع بها رجلٌ لأخيه التوأم الحقيقي، ولمْ يَرفض جسمُ المريض الكُلية الجديدة لأنها حَمَلَت المادةَ الوراثية نفسها، ولمْ يَكتشف الجهازُ المناعي لجسم المريض أنّ الكُلية الجديدة هي جسمٌ غريب عنه لأنها حَمَلَت "بَصْمَة وراثية" تطابق تماماً "البَصْمَة الوراثية" لأخيه التوأم.

تطوَّر عِلم المَناعة كثيراً خلال النصف الثاني من القرن العشرين، واكتَشَف رجاله كثيراً من المعلومات والقوانين التي تَحكمه، كما اكتَشَفوا أدوية فعالة تستطيع السيطرة على التفاعلات المَنَاعية في الأجسام الحيّة، وتَمنع رفض الأعضاء المزروعة، فتَمكَّنوا بذلك من تحقيق ثورة هامة في نجاح عمليات زرع الأعضاء وتعويض الأعضاء التي أَتلفها المرض. كما استخدموها في علاج كثير من أمراض الحساسية والأمراض التي تَنتج عن الخلل الذي قد يَحدث في عمل جهاز المَناعة فيهاجِمُ جسمُ الإنسان نفسَه! وامتدت آفاق عِلم المَناعة للبحث في أمراض السرطان، والكشف عن كيفية حدوثه وانتشاره، والتعرّف على الخلل المَنَاعي الذي يساعد على ذلك، ثم اكتشاف طرق جديدة لعلاج أمراض السرطان باستخدام الأساليب المَنَاعية التي قد توصلنا إلى القضاء على الخلايا السرطانية دون إحداث الضرر بخلايا الجسم الطبيعية.

السير بيتر برايان مدَوَّر

يُعتَبر السير بيتر برايان مدَوَّر Sir Peter Brian Medawar (1915-1987) مؤسِّس عِلم المَناعة الحديث، وواضع الأسس العلمية لعِلم زراعة الأعضاء. ولِد بيتر مدَوَّر في قرية ميتروبوليس قرب مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل لأبٍ من أصول لبنانية وأمّ انكليزية. انتقل إلى إنكلترا في طفولته حيث درس وعمل وعاش بقية عمره.

ولادة عِلم جديد من رحم المأساة

في يوم صيف حار من سنة 1940 كان بيتر يَتنزه في حقل ريفي قرب مدينة أوكسفورد الإنكليزية مع زوجته وابنته حينما سمعوا فجأة صوت طائرة عسكرية تُحلِّق بشكل مضطرب على ارتفاع منخفض والدخان يتصاعد منها حتى اصطدمتْ بالأرض وانفجرتْ قربهم مكونة كرة كبيرة من اللهب والدخان. هرعتْ زوجته وضَمَّت ابنتها الصغيرة الخائفة، بينما هرع بيتر وبعض الفلاحين نحو الطائرة المنكوبة. كانت تلك أياماً صعبة في الحرب العالمية الثانية تَعرَّضتْ خلالها إنكلترا لهجومٍ شرسٍ من سلاح الجو الألماني في محاولة لكسر مقاومتها وضمان استسلامها. أثار منظر الطائرة المحترقة الرعب والأسى، وعلى الرغم من أنّ طيارها قد نجا بأعجوبة من الموت إلا أنه أُصيب بحروق بليغة. غيَّرتْ تلك اللحظة حياة بيتر، فمنذ تلك الحادثة لمْ يعد مقتنعاً بالعمل الفكري والعِلم المجرد، بل شَعَر أنّ واجباته الإنسانية والأخلاقية تقتضي أنْ يوجِّه عمله وجهده وأبحاثه لتحقيق هدفٍ عمليٍ محدد ومفيد يساعد على تخفيف آلام الإنسان.

العمل والبحث العلمي معاً

كان بيتر يعمل آنذاك في مختبرات الجراثيم حيث كان يشارك في أبحاث تتعلق باكتشاف مضادات حيوية لعلاج الالتهابات التي كانت كثيراً ما تحدث لدى جرحى الحرب. وقد شاهد هذه الإصابات البليغة والحروق الشديدة والجروح المؤلمة في كافة أرجاء المستشفى. شاهدَ بيتر هؤلاء الجرحى يتألمون ويموتون، وأدركَ أنّ علاج إصاباتهم الخطيرة وحروقهم الشديدة لن يكون سهلاً. فتَحَت الأبحاث التي قام بها آفاقاً جديدة في عِلم زراعة الأعضاء. ولكنها لم تكن أفضل ما قام به من أعمال، بل يعتقد كثير من أصدقائه ومعاصريه أن أفضل ما قام به في حياته هو أنه تزوج جين شينغلوود تايلور Jean Shinglewood Taylor (1913-2005) التي تعرَّف عليها أثناء دراسته الجامعية في أوكسفورد سنة 1935. تزوجا في أوائل العشرينات من عمرهما، وعاشا معاً أكثر من خمسين عاماً.

كان بيتر مدَوَّر شاباً وسيماً فارع الطول، وكان لطيف المعشر، لمّاح الذكاء، سريع البديهة، وكان يتمتع بحسّ الدعابة والفكاهة، ولديه طيف واسع من المعارف المتنوعة في الثقافة والموسيقى والرياضة. كما كانت جين جميلة وجذابة، وأتقنتْ لغات عدة، ولا شك بأنها وقعتْ تحت تأثير جاذبية بيتر وذكائه وشخصيته الساحرة. اعتنتْ بأسرتها جيداً وأمَّنتْ لزوجها حالة عائلية هادئة وسعيدة ومستقرة مما سَمح له بإنجاز كثير من الإبداع. ظلّت العلاقة بينهما حالة حب مطلق غير مشروط. طلبتْ جين من زوجها بيتر ذات مرة أن يمنحها شيئاً من الوقت الذي يمنحه لعمله ومختبره، ولكنه أجاب بلطف: " إنك تمتلكين كل حبي وقلبي، ولكنك لا تملكين كل وقتي". وكان بينهما اتفاق مضمر على أن يكون لبيتر وقته الخاص للعمل والتفكير. وعندما كان يبدو صامتاً وساهماً أو شارد الذهن، كانت جين تسأله: "هل أنت مشغول بالتفكّر في شيء؟" وإذا قال نعم، كانت تتركه لشأنه، وتأخذ الأولاد بعيداً، وتتأكد من هدوء البيت وعدم إزعاجه بأية قضية. أدركتْ جيداً أنّ أهم واجباتها هو منح بيتر الظروف العائلية والبيتية الملائمة لكي يتابع أداء عمله وأبحاثه المهمة بنجاح، وبالفعل كرَّس بيتر وقته وجهده وأبحاثه لكي يحلّ مشكلة زرع الأعضاء.

تغطية الحروق بالجلد السليم

استخدَم الأطباء زرع الجِلد في تلك الأيام لتغطية الحروق الشديدة والتعجيل في شفائها. وكان واضحاً لهم أن الجِلد المزروع من جسم إنسانٍ لإنسانٍ آخر لا ينجح في تغطية الحروق لأكثر من أسبوعين أو ثلاثة، بينما الجِلد الذي يؤخذ من مكان سليم في جسم المريض نفسه ويُزرع في مكان الحرق يَنجح في تغطية الحرق ويَستمر بقاؤه سنوات طويلة. وتساءَلَ بيتر: لماذا يحدث ذلك؟ وما هو الفرق بين جِلد المريض وجِلد إنسان آخر؟ وكيف يَعرف جسم المريض ذلك؟ وكيف يُميِّز بين الجِلد المزروع من جسم المريض نفسه، والجِلد المأخوذ من جسم إنسان آخر؟! لمْ يكن لدى الأطباء آنذاك أية إجابات علمية واضحة عن هذه التساؤلات.

المناعة ورفض زرع الجلد

ساعدتْ أبحاث مدَوَّر على فهم ظاهرة رفض زرع الجلد والأعضاء بشكل عام، وبَيَّن أنها تتعلق بوظيفة جهاز المَناعة، وأنّ رفض الجسم زرع أعضاء فيه من أجسام أخرى هو نتيجة لرد فعل الخلايا المناعية. بل واكتشف طرقاً تساعد على تخفيف رفض خلايا المَناعة لزرع الأعضاء، ودخل التاريخ بحصوله على جائزة نوبل للفيزيولوجيا والطب سنة 1960 تقديراً لقيامه بدراسات حاسمة في هذا المجال.

السير بيتر برايان مدَوَّر Sir Peter Brian Medawar (1915-1987) مؤسِّس عِلم المَناعة الحديث، وواضع الأسس العلمية لعِلم زراعة الأعضاء. حصل على جائزة نوبل سنة 1960

انطلق مدَوَّر في أبحاثه من فحص النُسُج المزروعة بشكل منهجي دقيق. حصل على منحة دراسية من لجنة جروح الحرب التابعة للمجلس الطبي البريطاني، وانتقل للسَّكن في فندق بسيط، والعمل لمدة شهرين في وحدة علاج الحروق في المستشفى الملكي لمدينة غلاسكو.

هرع رجال الإنقاذ ذات يوم إلى المشفى بفتاة شابة في الثانية والعشرين من عمرها أُصيبتْ بحروق بالغة في مطبخ المنزل. تمّ تنظيف الحروق فوراً، وأُعطيت الدم اللازم، وتابع الأطباء علاجها. ولكن بعد مرور شهر لمْ تكن قد شُفِيتْ، واحتاجتْ إلى زرع الجِلد لتغطية الحروق. زَرَعَ مدَوَّر اثنين وخمسين قرصاً صغيراً أُخذتْ مِنْ منطقة سليمة مِنْ جِلدها، كما زَرَعَ خمسين قرصاً صغيراً أُخذتْ مِنْ جِلد أخيها. تمَّتْ مراقبة الجِلد المزروع يومياً، وأُخِذتْ عيِّنات للفحص تحت تكبير المجهر. كانت العيِّنات متشابهة في البداية وظهرتْ علامات الشفاء المبكرة، ولكن بعد عدة أيام، ظَهَرَ غزو خلايا مناعية في عيِّنات الجِلد المأخوذ من الأخ، بينما لم يُلاحَظ ذلك في عيِّنات الجِلد المأخوذ من جسم المريضة ذاتها. وبعد ثلاثة وعشرين يوماً من الزرع كانت أقراص الجِلد المأخوذة من الأخ قد تَحلَّلتْ تماماً بعد أنْ "رَفَضَها" جسم المريضة. وكأن الخلايا المناعية قد أدَّتْ إلى رفض الجِلد المزروع، لقد وجِدَت الخلايا المناعية في المكان بالفعل، ولكن هل كانت هي التي قامَتْ بالرفض الذي أدى إلى تَحلل الجِلد المزروع؟

سنوات الأرانب

عاد مدَوَّر إلى أوكسفورد ودَرَسَ هذه الظاهرة في الأرانب. استخدَم خمسة وعشرين أرنباً في تجاربه الأساسية تلك، وزَرَعَ أقراصاً صغيرة من جِلدها بالتبادل فيما بينها، كرَّر ذلك الزرع عدة مرات مع دراسة ما يحدث للأقراص المزروعة تحت تكبير المجهر. قام أيضاً بتصوير مئات من هذه العينات وتسجيلها بدقة وعناية وصبر. ولنا أنْ نتعلم من تجارب مدَوَّر ما يحتاجه الفوز بجائزة نوبل من جهد وصبر وأناة، فقد قام خلال تلك التجارب بإجراء 625 عملية زرع لأقراص الجِلد في أرانبه، ودَرَسَ مئات من العينات تحت المجهر وقام بتصويرها وتصنيفها، ثم قام بتحليل النتائج إحصائياً، ونَشَرَ نتائج البحث في مقالتين طويلتين سنة 1944 و1945. قال مدَوَّر إنّ تلك الأبحاث كانت أشقَّ ما قام به من أبحاث في حياته، وأيَّدته زوجته في ذلك. لمْ يكن يرجع إلى البيت أحياناً حتى الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً. كان يعود وفي يده حقيبته المليئة بالأوراق والمقالات العلمية التي كان يقرأها قبل صباح اليوم التالي. كان يشعر بالإرهاق الشديد، ولكن ما شجعه على الصبر هو شعوره بأنّ هذه المشقة لا تُعتبر شيئاً يُذكر بالمقارنة مع الجهد والتضحية التي كان يبذلها الجنود والطيارون في الحرب. لمْ يكن مدَوَّر من الباحثين النظريين، بل كان يَبني ويَستنبط نظرياته استناداً إلى النتائج التجريبية، وحافَظَ على ذلك المنهج حتى بعدما أصبح رئيساً للمؤسسة الإنكليزية القومية للبحث الطبي سنة 1962، فقد تابَعَ القيام بالتجارب العملية يومين في الأسبوع ولمْ يسمح للالتزامات الإدارية بتعطيل أبحاثه العلمية التجريبية.

ملاحظتَين هامتَين

أيَّدتْ نتائج تجارب مدَوَّر على الأرانب ملاحظاته السابقة عن علاقة المَناعة برفض الأعضاء المزروعة، كما أضاف إليها ملاحظتَين هامتَين: الأولى هي أنّ رفْض قِطع الجِلد الكبيرة يكون أسرع من رفْض القِطع الصغيرة على غير ما يتوقعه المرء من أنّ القِطع الأكبر تحتاج إلى وقت أكثر لكي تتحلل. إلا أنّ هذه الملاحظة تتفق مع نمط رد الفعل المناعي، إذ تقوم خلايا الدفاع المناعي عادةً بشنِّ هجوم أقوى عندما يكون التحدي أكبر. وكانت الملاحظة الثانية هي أنّ التحلل وردَّ الفعل المناعي يكون أسرع وأقوى في المرة الثانية لزرع الجِلد إذا كان الجِلد المزروع في المرة الثانية مأخوذاً من الأرنب ذاته الذي أُخِذَ منه الجِلد المزروع في المرة الأولى، وكأنما يكون جهاز المَناعة قد استعدَّ أو تدرَّب على رفْض الجِلد في المرة الأولى فيكون ردُّ فعله أقوى وأسرع عندما يواجه العدو نفسه، فيرفض زَرْعَ الجِلد الجديد، ويكون هذا الرفض نوعياً وخاصاً بالجِلد المزروع نفسه وليس بجِلد أي أرنب آخر.

أثبتتْ عمليات زرع الجِلد عند الأرانب بما لا يدع مجالاً للشك أنّ رفض الزرع هو تفاعل مناعي تقوم به خلايا المَناعة في جسم الآخذ. واتجهتْ أبحاث مدَوَّر بعد ذلك إلى محاولة فهم ومعرفة الطرق والأساليب التي تقوم بها خلايا المَناعة لرفض الأعضاء والنسج المزروعة الغريبة عنها، وكذلك محاولة اكتشاف طرق علاجية لوقف أو لتخفيف الرفض المناعي وبالتالي نجاح زراعة الأعضاء. لمْ تكن دراساته عن الأرانب سوى مقدمة لدراساتٍ أكثر واكتشافات أهم. فقد تابع أبحاثه بعدما أصبح مدَوَّر أستاذاً لعِلم الحيوان في جامعة برمنغهام سنة 1947، واستمر فيها بعدما انتقل سنة 1951 إلى جامعة لندن، حتى نَشَرَ نتائج أبحاثه تلك في مجلة Nature سنة 1953 في مقالة من ثلاث صفحات ونصف لا أكثر! استطاع مدَوَّر في هذه الصفحات القليلة أنْ يضع الأسس العلمية لطرق دراسة مشكلة زرع الأعضاء، وشرح فيها كيفية زرع قطع مِنَ الجِلد مِنْ حيوان لآخر دون أنْ يتمَّ رفضها وتحللها، ودون أنْ تُثير أي رد فعل مناعي ضدها.

الأميرة الجميلة والأمير الساحر

قال الكاتب الشهير ريتشارد دوكينز Richard Dawkins (1941) أن مدَوَّر هو أذكى وأطرف كاتب في العلوم. في تلك الأيام المجيدة كان مدَوَّر يعمل دون كلل، وقد انشغل كثيراً عن زوجته وأولاده لدرجة أنّ جين كانت تشتري هدايا عيد ميلادها وتكتب عليها الإهداء لنفسها باسمه. مُنِحَ مدَوَّر لقب الفروسية "السير" سنة 1965، ولكن قصة الأميرة الجميلة والأمير الساحر كان لا بد أنْ تصل إلى نهايتها، ففي 7 سبتمبر سنة 1969 عندما كان مدَوَّر في قمة مجده أُصيب فجأة بنزيف دماغي شديد بينما كان يلقي محاضرة في كاتدرائية إكسيتِر، وغاب عن الوعي. ظلَّ مدَوَّر عاجزاً عن العمل سنة كاملة بحالة من شلل نصفي شديد، إلا أنه عاد إلى العمل بعدها بفضل عناية زوجته ودعمها النفسي القوي. ورغم معاناته أزمتَين دماغيتَين أيضاً في أوائل الثمانينات، إلا أنّ مدَوَّر استمر في العمل بعناد وتصميم. وكان من بعض فضائل متاعبه الصحية أنْ أصبح لديه مزيد من الوقت للحوار مع الباحثين في مختبره، وقضاء وقت أطول مع أولاده، وتأليف الكتب. حصل مدَوَّر على وسام الاستحقاق الملكي وعضوية الأكاديمية البريطانية سنة 1981، كما مُنِحَ سنة 1986 جائزة مايكل فاراداي Michael Faraday بسبب " ما قدَّمتْه كتبه من إسهامات للعلماء والقرَّاء، وما تميَّزتْ به من فكر وإنسانية في متابعة العلم بأرقى صوَرِهِ، وما مَنَحَتْه مِنْ إضافات في الثقافة المعاصرة". حملتْ بعض كتبه عناوين لافتة مثل: "تميُّز الإنسان"، و"الاستقراء والحدس في التفكير العلمي"، و "نصائح إلى عالِم شاب"، و "حدود العلم". ونَشَرَ آخر كتبه عن سيرته الذاتية سنة 1986 تحت عنوان: "مذكرات فِجْلَة مُفَكِّرَة".

توفي مدَوَّر في الثاني من أكتوبر سنة 1987، وقيل عنه في حفل تأبينه أنه كان أكثر علماء الأحياء البريطانيين تميزاً وشهرة في جيله، وأُطلِق اسمه على أبنِية في جامعة أكسفورد وجامعة لندن. ونُقِش على قبره قولٌ للفيلسوف هوبز ذَكَرَه مدَوَّر في آخر محاضرة له: " لا يمكن أنْ نجد القناعة والرضى إلا بالاستمرار في العمل والعطاء". توفيتْ زوجته جين سنة 2005 ودُفنتْ إلى جانبه.

 

المصدر:

كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني

 

 

آخر تعديل بتاريخ
15 ديسمبر 2022
Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.