لعلّ الطبيب الألماني الشهير بول إيرليخ Paul Ehrlich (1854-1915) هو أول من استَخدَم اصطلاح "مُضَادات الأجسام"، وذلك في ختام مقالته التي نُشِرتْ عام 1891 تحت عنوان:" دراسات تجريبية في المَناعة". اقترح إيرليخ في تلك المقالة وجود مواد كيميائية أو أجسام في الدم تعمل ضد المواد الغريبة التي تَدخل إلى الجسم.
وفي سنة 1897 طَرَحَ نظرية لتفسير عمل مُضادات الأجسام مع المواد التي تتفاعل معها، وذلك بأنه عندما تَدخل المواد الغريبة إلى الجسم فإنها تُحَفِّزه على صنع مضادات نوعية ضدَّها، ولذلك أَطلق اسم "مُوَلِّدات الضِّد" أو "المُسْتَضِدَّات" على المواد الغريبة، واسم "مُضَادات الأجسام" على المواد التي يَصنعها الجسم لكي تتفاعل مع هذه المواد الغريبة فتُحللها وتُزيلها.
كما اقترح إيرليخ أن كل "مولِّد ضدّ" يتفاعل نوعياً مع "مضاد الجسم" الذي يرتبط به حصراً دون غيره من المواد، وأنه إذا أدَّتْ مادَّتان إلى انتاج مضادات أجسام مختلفة، فلا بد مِن أنْ تكون هاتان المادَتَان مختلفتَين. كما اقترَح سنة 1897 وجود نوع من "المُسْتَقبِلات" المختلفة على سطح الخلايا والجراثيم المختلفة، وأن هذه المُسْتَقبِلات ترتبط وتتفاعل مع أنواع خاصة من مضادات الأجسام التي تعمل ضدها بطريقة تشبه عمل القفل والمفتاح. اكتشف إيرليخ أيضاً أول علاج لمرض الزُهري، ووضع مبادئ العلاج الكيميائي للأمراض الوبائية المُعْدِيَة، واكتشف طريقة مخبرية خاصة في تلوين الجراثيم لتمييزها عن بعضها، كما كان له الفضل في تطوير المَصْل النوعي لعلاج مرض الدفتريا (الخُنَّاق). مُنِحَ بول إيرليخ جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1908 تقديراً لجهوده في تطوير عِلم المَناعة.
الطبيب الألماني الشهير بول إيرليخ Paul Ehrlich (1854-1915) هو أول من استَخدَم اصطلاح "مُضَادات الأجسام"، وحصل على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1908 تقديراً لأبحاثه في عِلم المَناعة
مضادات الأجسام هي بروتينات!
في العشرينات، اكتشف الأمريكيان مايكل هايدلبرغر Michael Heidelberger (1888-1991) وأوزوالد آفري Oswald Avery (1877-1955) أنَّ مضادات الأجسام تتألف من بروتينات. وأَثبتَ العالِم الشهير لاينوس بولينغ Linus Pauling (1901-1994) في الأربعينيات نظرية إيرليخ في التفاعل بين الأجسام الغريبة عن الجسم ومضادات الأجسام النوعية التي تتفاعل معها، وأَظهَر أنّ ذلك التفاعل يتعلَّق بشكل جزيئات هذه المواد وتكاملها مع بعضها مثلما يتكامل كل قفل مع مفتاحه الخاص. وبعدما اكتُشِف التركيب الكيميائي للحموض النووية وعلاقتها بنقل الصفات الوراثية وصُنع البروتينات، أدرك العلماء أنَّ صُنع الأجسام المضادة التي تتألف من بروتينات لا بد أن يتعلق أيضاً بالوراثة، وبالمادة الوراثية الفريدة التي يحملها كل منا في خلاياه.
هل هناك علاقة بين المناعة والوراثة؟
منذ منتصف الستينات، كان العلماء يدركون وجود علاقة قوية بين المَناعة والجينات (المُوَرِّثات) الموجودة في المادة الوراثية التي تحملها خلايا جسمنا، وخاصة تلك التي توجد في خلايا المَناعة. وأدرك رائد عِلم المناعة الحديث العالِم الاسترالي بورنِت أن قدرة خلايا المَناعة على تمييز ما هو مِن الذات وما هو غريب عنها لا بد من أنْه يتعلق بنوعية مضادات الأجسام التي تَصنعها خلايا المَناعة، ولكنه لمْ يعرف كيف يحدث ذلك.
كيف تستطيع الأجسام المضادة التعرف على العدد الهائل من الجراثيم والمواد الغريبة عن جسمنا فتهاجمها وتحللها؟ ولماذا لا تهاجِم خلايا جسمنا ذاته؟ أَظهَرت التجارب العلمية أنّ الأجسام المضادة تستطيع التعرف على أنواع كثيرة جداً مِن الأجسام الغريبة عن جسمنا حتى لو كانت مواد صناعية، ولكن على الرغم من ذلك، يبدو أنها تتعرف أيضاً على خلايا جسمنا ذاته فلا تؤذيها! لمْ يتمكن العلماء من فهم وتفسير ذلك حتى تمكنوا من تشكيل صورة واضحة لأحد الأجسام المضادة.
اكتشاف تركيب مُضَادَّات الأجسام
لمْ يُكتشَف تركيب مضادات الأجسام إلا بعد أبحاث طويلة قام بها العلماء في ستينيات القرن العشرين، وعرفوا أنّ مضادات الأجسام تتألف بشكل أساسي من مواد بروتينية مرتبة بشكل الحرف Y، وأنّ لها بضعة أنواع. تم اكتشاف تركيب أولها على يد الأمريكي جيرالد إيدلمان Gerald Edelman (1929-2014)، والإنكليزي رودني بورتر Rodney Porter (1917-1985).
وتم اكتشاف تركيب أنواعها الأخرى تدريجياً. وقد لاحظ العلماء وجود علاقة وثيقة بين أشكال جزيئات مضادات الأجسام ووظيفتها في الجسم، وفهموا سبب ارتباطها النوعي والحَصري بالأجسام والمواد التي تتفاعل ضدها، وعرفوا أنّ ذلك يرجع إلى التكامل الفراغي بين شكل الجسم والجسم المضاد له، وذلك مثل القفل الذي لا يتكامل إلا مع مفتاحه الخاص به. تتشابه مضادات الأجسام كثيراً في تركيبها الأساسي فيما عدا منطقة صغيرة في قمَّتها اكتُشِف أنها تختلف وتتنوع كثيراً بحيث تتشكل ملايين المضادات التي لا تختلف فيما بينها إلا في شكل نهاياتها أو قممها.
وفي تلك القمة "المفتاح"، تقع منطقة التفاعل بين كل مضاد جسم ومُوَلِّد الضّد الذي يتكامل معه حصرياً. يحدث التفاعل بين مضادات الأجسام والخلايا الغريبة عن جسم المريض في عمليات زرع الأعضاء، مثل زرع الكلية، وزرع القلب. تقديراً لأبحاثهم في كشف تركيب وشكل مضادات الأجسام، مُنِحَ إيدلمان و بورتر جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1972.
رسم توضيحي يبين العلاقة النوعية بين شكل مضادات الأجسام ومولدات الضد
رسم توضيحي يظهر تفاعل مضادات الأجسام النوعي مع مولدات الضد الموجودة على سطح خلية جرثومية غريبة
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني