كشفتْ دراسات لاندشتاينر وجود زُمَر الدم على سطح الكُرَيَّات الحمر في الدم، ووجود مضادات أجسام قوية في البلازما، وأنّ التفاعل المَنَاعي الذي يَنشأ عن عدم توافق هذه الزمر هو تفاعل قوي وقاتل. وما زال تَحري التوافق في زُمَر الدم أمراً أساسياً لا يمكن تجاوزه في نقل الدم، وكذلك في عمليات زرع الأعضاء حتى هذه الأيام.
هل هناك زمر مناعية على كريات الدم البيضاء؟
في خمسينات وستينات القرن العشرين، أوحَتْ دراسات زمر الدم للعلماء فكرة التحري عن وجود زُمَرٍ مشابهة في كُرَيَّات الدم البيضاء. وبالفعل عندما مَزَجَ الباحثون كُرَيَّات الدم البيضاء مع بعضها ومع البلازما لاحظوا حدوث تفاعلات مَناعية فيما بينها أحياناً. كما لاحظوا أنّ شدة هذه التفاعلات تختلف كثيراً فيما بينها. ولاحظوا أنّ جداول احتمالات هذه التفاعلات أصبحت طويلة وعريضة بحيث كان من الصعب إيجاد أنماط واضحة فيها، مثلما كانت عليه الحال في جداول لاندشتاينر التي سرعان ما أفصَحتْ عن وجود زُمَر الدم الأربعة. اكتشَف العلماء أنّ الزُمَر المميّزة في كُرَيَّات الدم البيضاء عديدة جداً وتصل إلى آلاف الاحتمالات. أدى ذلك إلى وجود آلاف من التسميات والرموز، وتشَوَّشَت الأمور كثيراً في المؤتمرات العلمية حينما حاول العلماء أنْ يجِدوا مفاهيم واصطلاحات يمكن أن تضع أرضية مشتركة فيما يبحثون عنه.
تصنيف الزمر المناعية في كريات الدم البيضاء
شكَّلتْ منظمة الصحة العالمية سنة 1968 لجنة خاصة لحل هذه الإشكالات العلمية ووضْع نظامٍ يتفق عليه العلماء في تسمية زُمَر التوافق المَنَاعي. وانطلقوا من التمييز بين التفاعلات المَنَاعية التي تحدث عند مزج الكُرَيَّات البيضاء مع البلازما، والتفاعلات الأخرى التي تَحدث عند مزج الكُرَيَّات البيضاء مع بعضها.
اتفَقَ العلماء على إطلاق اسم "مُوَرِّثات التوافق" أو "جينات التوافق" Compatibility Genes على المُوَرِّثات التي تُحدِّد زُمَر المَناعة في الجسم. وأَطلقوا اسم مُوَّرِثات التوافق مِنَ النوع الأول على المُوَرِّثات التي تؤدي إلى التفاعل بين الكُرَيَّات البيضاء والبلازما، واسم مُوَرِّثات التوافق مِنَ النوع الثاني على المُوَرِّثات التي تؤدي إلى التفاعل بين الكُرَيَّات البيضاء مع بعضها.
اتضح فيما بعد أنّ مُوَرِّثات النوع الأول توجَد في كافة خلايا الجسم تقريباً، بينما توجَد مُوَرِّثات النوع الثاني في بعض أنواع كُرَيَّات الدم البيضاء فقط. وقد فَسَّرَ هذا التصنيف سبب اختلاف النتائج في التجارب المختلفة. في الدراسات العلمية للمَناعة عند الإنسان، أُطلِق اسم "مستضدات الكُرَيَّات البيض عند الإنسان" Human Leukocyte Antigen " أو باختصار "HLA" على زُمَر التَوافق.
ونَعرِف الآن وجود ثلاث زُمَر رئيسية من النوع الأول مِنْ HLA عند الإنسان يُرمَز لها بالأحرف A, B, C. يَحمل كل إنسان كذلك ثلاث زُمَر رئيسية من النوع الثاني يُرمَز لها بالأحرف HLA-DR, -DP, -DQ. تم تمييز كل زمرة من هذه الأنواع برقم تُحَدّده منظمة الصحة العالمية، فمثلاً يمكن أن يحمل إنسان ما الزمرة HLA-A02 والزمرة HLA–A11 من النوع الأول A، وزُمراً تحمل أرقاماً أخرى من الزُمر الأخرى.
وإذا عرفنا أنه قد اكتُشِف حتى الآن 1243 زُمرة من النوع A، و1737 من النوع B، و884 من النوع C، وإذا أضفنا إليها تنوعاً كبيراً مماثلاً في زُمر النوع الثاني أيضاً، لأدركنا مدى التنوع الهائل الذي يمكن أنْ يوجَد في الزُمَر المَنَاعية عند البشر. وإنّ احتمال تَماثل اثنين مِنَ البَشر في الزُمَر المَنَاعية ذاتها هو أقل من واحد في البليون. ولا تتماثل الزُمر المَنَاعية إلا في التوائم الحقيقية. يفسِّر لنا هذا التنوع الهائل مدى صعوبة مَنع حدوث رفض خلايا المَناعة لزرع الأعضاء من إنسان لآخر، ومدى صعوبة النجاح باكتشاف وجود توافق مَناعي بين المتبرِّع والمريض في عمليات زرع الأعضاء، كما يفسر لنا سبب نجاح ذلك في التوائم الحقيقية.
ولحسن الحظ، وربما بسبب التزاوج والحياة المشتركة في مكان محدَّد لفترة طويلة من الزمن، فقد لاحظ العلماء أنّ بعض الزُمَر المَنَاعية تتواجد أكثر من غيرها في بعض المجتمعات، فمثلاً يَشترك حوالي ربع سكان بريطانيا وأوروبا وأمريكا بحملهم الزُمرة المَنَاعية HLA-A02، بل إنّ هذه الزمرة هي الأكثر تواجداً في العالَم. ولذلك كانت أول ما اكتُشِف من زُمَر المَناعة عند الإنسان. بينما تتواجد الزُمرة A11 عند الصينيين مِنْ سكان سنغافورة بمعدل خمس مرات أكثر مما هي في سكان بقية الدول. حَصَلَ العالِم الفرنسي جان دوسيه Jean Dausset (1916-2009) على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1980 تقديراً لأبحاثه في كشف زُمَر المَناعة ومُوَرِّثاتها في الخمسينات والستينات من القَرن العشرين.
زُمَر المَناعة وزرع الأعضاء
مع تزايد المعلومات عن الزُمَر المَنَاعية ودورها في التفاعل ضد الأجسام الغريبة عن الجسم، لمْ يَستغرب العلماء اكتشاف أهميتها في عمليات زرع الأعضاء. وبالفعل أَظهَرت دراساتٌ أُجريتْ في السبعينات أنّ وجود توافق في الزُمر المَنَاعية HLA بين المُتبرِّع والمريض يزيد كثيراً من احتمال نجاح عملية زرع الكُلية. وأنّ أَخذ الكُلية مِنْ أقارب الدرجة الأولى كان أكثر نجاحاً مِنْ أخذها مِنَ الغرباء.
وفوجئ العلماء باكتشاف أنّ خلايا المَناعة أكثر تحملاً لبعض أعضاء الجسم، مثل الكبد وقرنية العين والدماغ والخصيتَين. واكتشفوا بالممارسة العملية أنّ توافق زُمَر المَناعة HLA بين المُتبرِّع والمريض أقل أهمية في عمليات زرع الكبد، إلا أنّ توافق زُمرة الدم ظلَّ ضرورياً بالطبع. وما زال سبب ذلك مجهولاً، وربما يَرجع ذلك إلى قدرة الكبد الخاصة على تجديد خلاياه، أو تَميّزه بقدرة خاصة على تقليل التفاعلات المَنَاعية فيه. وقد اكتُشف بالفعل أنّ خلايا الكبد تُفرز مواد مخفضة للمَناعة فيه، وربما كان في ذلك فائدة ما، لأن كثيراً من المواد الغريبة عن الجسم تَمرُّ غالباً بالكبد قادمة مِنَ الأمعاء.
وقد يكون في تخفيف التفاعل المَنَاعي ميزة في الكبد، لأنّ التفاعلات المَنَاعية قد تكون شديدة فتؤذيه، وربما يَحدث مثل ذلك في الدماغ. وفي الوقت نفسه، فإنّ تخفيف المَناعة في عضو ما تجعله معرَّضاً لبعض الالتهابات، مثل التهاب الكبد الفيروسي، ولا بد من وجود توازن بين التَّحَمل والمقاومة.
أدوية تخفف المناعة
اكتشف العلماء أيضاً أدوية قوية تخفِّف التفاعلات المَنَاعية، مثل الأزاثيوبرين Azathioprine في الستينات، والسيكلوسبورين Cyclosporine في الثمانينات. ساعدتْ هذه الأدوية كثيراً في نجاح عمليات زرع الأعضاء، ولكنها بتخفيف المَناعة أضعفتْ مقاومة الجسم ضد الأمراض، وساعدتْ على نشوء بعض الأورام السرطانية عند استخدامها فترات طويلة.
أصبح زرع الأعضاء ممكناً بفضل تقدم معلوماتنا عن كيفية عمل جهاز المَناعة في الجسم، وكيفية فحص التوافق في زمرة الدم والزُمَر المَنَاعية بحيث تكون نتيجة زرع الأعضاء أفضل ما يمكن، وكذلك ساعد على نجاح زرع الأعضاء اكتشافُ الأدوية القوية التي تخفض التفاعلات المَنَاعية في الجسم، وتقلِّل رفضَ الأعضاء المزروعة الغريبة عن الجسم.
ولكنْ لمْ يعرف العلماء لماذا يوجَد كل هذا التنوع الكبير في مُوَرِّثات المَناعة والتوافق؟ ولماذا يوجد هذا التميّز الخاص لكل منا في هذه المُوَرِّثات؟ فلا بد من أنّ لهذه المُوَرِّثات دوراً مهماً آخر في حياتنا غير المصاعب التي تضَعها أمام الأطباء والمرضى في عمليات زرع الأعضاء !
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني