السبب وراء عدم تحديث النفس
يبقى الشخص يتحرك أمامك ويصعد ويهبط ويتغير للأحسن أو للأسوأ وأنت ما زلت تراه كما هو، تمر عليه الساعات والأيام والليالي والسنين وأنت مصرّ على أن توقف الزمن عند لحظة قديمة كان لها ظروفها وتفاصيلها المختلفة تماماً، فيذهب ويروح ويجيء مراراً وتكراراً وأنت لا ترى منه إلا ذلك الشخص القديم الذي قد يكون مختلفاً تماماً عمن تراه الآن.
يفترض علماء مدرسة الجيشتالت في العلاج النفسي أن الشخص لو قام بالنظر إلى شجرة فإن عينه تقوم بأخذ اللقطة الأولى لها، ثم تقوم بتخزينها في الذاكرة، ولا تستقبل منها أي صور جديدة، إلا لو هبت بعض الرياح، فتحرك أوراقها، وتهز أغصانها، وتفيق عيناك على صورة جديدة، وعلى مشهد مختلف. قامت كل مدرسة الجيشتالت على دراسة الإدراك والاستقبال وقوانينهما، وكيفية تجديدهما، وكيف أن استقبالاتنا المبكرة لمواقف في طفولتنا، وتثبيتها وعدم مراجعتها، قد وصلت بنا لبعض الأعراض والأمراض النفسية.
وكأننا نحب الراحة أو كأننا مدربون على الاستسهال ولا نريد أن نبذل بعض المجهود كي نرى شيئاً جديداً غير ما تعودنا عليه، لأن ذلك قد يفسد تصوراتنا القديمة، ويهدم ذلك البنيان الهلامي الذي بنيناه في الماضي.
أتعلم ما هي الوظيفة الحقيقية لذلك؟ أتدري لماذا نثبّت الآخرين في صورهم القديمة ومواقفهم السابقة؟ لأن ذلك -وبكل بساطة- يساعدنا على تثبيت أنفسنا أيضًا، وإعفائها من مسؤولية أي حركة وأي تغيّر، لأنه يريحنا من أي مجهود نفسي نقوم به قد يفسد تصوراتنا السابقة عن أنفسنا وعن الآخرين، ولأنه يعفينا من مراجعة النفس واكتشاف الخطأ وتصحيح المسار وتجديد الاستقبال.
فليبق إذن كل شيء في مكانه وكل شخص في نسخته القديمة: الجيد دائماً جيد، والسيئ دائماً سيئ، الجميل ما زال جميلا، والقبيح يظل قبيحاً ونعيش في قوالب نفسية ثابتة وتماثيل عقلية وشعورية جامدة لا حراك ولا حياة ولا تغيير.
المشكلة الأكبر في ذلك أنه ضدّ الطبيعة، ضد الكون، ضد قانون الخلائق، ضد البشرية نفسها، فالكون يتغير كل لحظة، والأرض لا تكف عن الدوران، مثلها مثل كل الكواكب حتى النجوم حتى المجرات، كلها في حركة دائمة وتغيّر مستمر، وفي كل لحظة هي في موقع جديد وإحداثيات مختلفة، ناهيك عن الليل والنهار وفصول السنة ومواسم الزرع والحصاد... وغيرها.
حتى جسدك نفسه، خلايا تموت وخلايا تتجدد، دماء تتدفق جيئة وذهابا في أوردتك وشرايينك، نبضات لا تكف، أنفاس تتلاحق، هضم وتمثيل وإخراج، ودورات حياة كاملة في كل خلية من خلاياك.
كيف أعمل على تحديث النفس ؟
يجب الاقتناع أن الحركة هي الأصل، والتغيير هو الطبيعة، والخيبة الكبرى هي أن تثبّت نفسك أو تثبّت غيرك عند أي موقف أو تفاعل أو كلمة أو نظرة أو خطأ أو موطن ضعف أو لحظة فشل، أو حتى لحظة نجاح، ويحرمنا ذلك ويحرم غيرنا من فرصة جديدة ورؤية مختلفة، حتى نبقى ممن "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها" صدق الله العظيم، لذا فإن تحديث النفس هو الطبيعي، وما عدا ذلك يعتبر خارجًا عن الطبيعة.
وبالمناسبة أحد أهم تفسيرات بعض الأمراض النفسية من منظور التحليل النفسي يسمى حرفياً (التثبيت)، بمعنى تثبيت النفس عند بعض المراحل القديمة في تاريخ نموها وتطورها أثناء الطفولة. إذاً ماذا تفعل الآن؟ كيف تحمي نفسك من أمراض وأعراض نفسية سببها أفكار قديمة واعتقادات خاطئة وتصورات غير صحيحة من مواقف أو أشخاص سابقين؟
هل تسمع عن برامج الحاسوب التي "تُحدّث" دورياً؟ هذا ما ستفعله. ستقوم بعمل تحديث دوري لاستقبال نفسك والآخرين، وستكتشف كل مرة أشياء لم تكن تعلم عنها شيئاً سابقاً فيك وفيهم، فالكتاب الناجح يطبع منه نسخة أولى وثانية وثالثة، فما بالك بك أنت، أنت تستحق طبعة جديدة من نفسك وممن حولك كل لحظة، وكل دقيقة، وكل ساعة. طبعة أنقى، وأحدث، وأوسع، وأشمل، وأرحب، وأوضح. لا تقف مكانك ولا توقف غيرك مكانه، تحرك هنا والآن، واسأل نفسك هل قمت بتحديث نفسك اليوم؟
ختاماً، يجب عليك ألا تضع نفسك في قالب معين ثابت، ولا تجعل عقلك يعيش في حالة من الجمود وتبني حدودًا منيعة لشخصيتك، بل يجب عليك أن تكون منفتحاً على الحياة، وأن تقوم بعمل تحديث النفس باستمرار لأن الحياة متغيرة وليست ثابتة، فهذه طبيعة الكون الذي خلقه الله، كما أن الأشخاص متغيرين سواء للأفضل أو الأسوأ، فلا تجعل تجارب الطفولة والمعتقدات التي نشأت عليها تكبر معك. بل طور نفسك وحسِّنها واحصل على أفضل نسخة من ذاتك.