الصحة الذهنية (أو العقلية) جزء لا يتجزأ من الصحة بشكل عام إلى جانب الصحة الجسدية، وقد عرفت منظمة الصحة العالمية الصحة الذهنية بأنها الحالة الجيدة لصحة العقل التي يكون فيها الفرد قادرا على التفكير بوضوح والتعامل مع ضغوط الحياة العادية وحل المشاكل المختلفة التي تعترض طريقه، كما يكون قادرا على العمل المثمر والمساهمة في بناء مجتمعه، ويتمتع بعلاقات جيدة مع زملائه وأصدقائه.
مع حلول شهر رمضان الكريم، يلتزم الصائم العزوف عن الطعام والشراب من الفجر وحتى غروب الشمس مع مدة صيام يومية ما بين 12 إلى 18 ساعة تبعا للموسم الذي يهل فيه شهر رمضان والموقع الجغرافي للبلد.
ماذا يحصل خلال الصيام؟
يؤدي الصيام لساعات عديدة إلى تحول في الموارد التي يستعين بها الجسم للحصول على الطاقة، فبعد نفاد سكر الغلوكوز ومخازن الغلوكوجين، تنتقل الدهون إلى الكبد الذي يعمل على تحويلها إلى أجسام كيتونية لكي يستخدمها في إنتاج الطاقة.
إن الانتقال من استخدام الغلوكوز إلى استخدام الكيتونات كمصدر للطاقة يطلق عليه اسم التحول الأيضي metabolic switching، الذي يحصل عادة بعد 10 إلى 14 ساعة من عدم تناول الطعام وذلك تبعا لنشاط الجسم.
لكن الأمر لا يتوقف عند حرق الدهون، فزيادة استخدام الكيتونات خلال فترات الصيام ومن ثم العودة إلى استعمال الغلوكوز بعد تناول الطعام، يساهم في إطلاق سلسلة من العمليات البيولوجية التي يعتقد العلماء أنها تحسن المرونة العصبية ومهارات التعلم والذاكرة واليقظة ومقاومة الدماغ للإجهاد.
تأثيرات الصيام على العقل
يقول مارك ماتسون عالم الأعصاب الأميركي من جامعة جون هوبكنز، إن الدماغ يعمل جيدا خلال الصيام بمجرد أن يتكيف الشخص معه. في حيوانات المختبر، كشف الباحثون أن الصيام يحفز إنتاج بروتين مهم اسمه عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ brain derived neurotrophic factor يرمز إليه اختصارا بـBDNF، يبدو أنه يلعب أدوارا مهمة، إذ يساعد على إنتاج خلايا دماغية جديدة، ويحمي خلايا المخ من مخاطر التلف والخلل الوظيفي، ويعمل على تنشيط الذاكرة ويحسن المزاج والقدرة على التعلم.
الفوائد المحتملة للصيام على الصحة الذهنية
يعزز من الوظائف العقلية
عندما يصوم الشخص فإن جسمه يحتوي على مواد أقل سمية تنساب عبر الدم والسائل اللمفاوي، الأمر الذي يسهل من عملية التفكير أثناء الصيام، ويؤدي إلى أفكار أوضح وإلى ذاكرة أفضل وإلى زيادة حدة الحواس الأخرى، وقد لا تلاحظ تلك التغيرات في الأيام القليلة الأولى من الصيام لأن الجسم قد يحتاج إلى بعض الوقت للتكيف مع الوضع الجديد الذي يستطيع العقل بعده الحصول على إمدادات دم نقية ونظيفة.
يزيد من قوة الإرادة
يحتاج الصيام إلى قوة ذهنية وقدرة على مقاومة الإشباع قصير المدى لتحقيق أهداف على المدى الطويل. إن المشاركة في الصيام تمنح الصائم قوة إرادة تجعله يشعر بالرضا العارم والإحساس المتجدد للتغير نحو الأفضل.
يحسن الإدراك والمزاج
وجدت مراجعة للدرسات التي أجريت على الأشخاص الذين صاموا شهر رمضان كجزء من ممارستهم الدينية، أن الصيام يغير الإدراك لأنه يعمل على تنشيط المزيد من الخلايا العصبية الدماغية التي تتحكم به، من هنا فلا غرابة أن يرتبط الصيام بحالة ذهنية متغيرة تفسر عصبية الصائم وتغير مزاجه.
يبطئ التدهور في وظائف المخ
يمكن للصيام المتقطع، كما الحال في صيام رمضان، أن يكون وسيلة للحماية من الحالات التي تتميز بتراجع في وظائف المخ، مثل داء الزهايمر ومرض باركنسون ومرض هنتينغتون. أفادت الدراسات التي أنجزت على الحيوان بأن الصيام يحسن الإدراك، ويوقف التدهور المعرفي المرتبط بالعمر، ويبطئ من وتيرة التنكس العصبي.
يساهم في تجديد الشفاء
يضع الصيام الجسم في تجربة تجديد تمكنه من التخلص من الخلايا والأنسجة المريضة والسموم والمواد غير المرغوب فيها.
كيف تحافظ على قوتك الذهنية في شهر رمضان؟
مع اتباع فريضة الصيام خلال شهر رمضان، يحدث نقص في إمداد الدماغ بالطعام والماء أثناء ساعات الصيام. كما تحصل تغييرات في أنماط النوم، وهذه كلها يمكن أن تخلق بلبلة على صعيد القوة الذهنية. إن ممارسة بعض السلوكيات خلال الشهر الفضيل من شأنها أن تفيد في شحذ القوة الذهنية وفي الحفاظ عليها:
التنبه إلى ما تأكله
يجب أن تضم وجبة الإفطار أطعمة صحية غنية بمضادات الأكسدة بما في ذلك الحبوب الكاملة والأسماك والمكسرات والخضروات والفواكه، فهذه تساعد في الحفاظ على الذاكرة وتقلل من خطر التعرض لمرض الزهايمر.
الحركة ثم الحركة
يلجأ الكثير من الصائمين إلى التزام السكينة أثناء الصيام، وهذا ليس في صالح الجسم ولا العقل. يجب الحرص على ممارسة النشاط الرياضي المنتظم لأنه يحسن من تدفق الدم للدماغ ويطلق العنان لحدوث تغيرات كيميائية تعزز من التعلم والتفكير وتجعل الصائم في حالة مزاجية جيدة. يعتبر الوقت الذي يلي الساعة الأولى من الإفطار أو صلاة التراويح هو الأفضل لممارسة النشاط البدني.
الحرص على تحفيز المخ
إن الانخراط في أنشطة تحفيزية عقلية قبل الإفطار أو بعده، مثل قراءة القرآن وحفظه، ومطالعة الكتب، وحل الكلمات المتقاطعة، وحل الألغاز، ولعب الشطرنج، وممارسة تمارين الاسترخاء والتأمل وغيرها، من شأنه أن يعزز من نمو خلايا جديدة ويساهم في تحسين وظائف المخ.
التواصل الاجتماعي مع الآخرين
إن قضاء الوقت مع الآخرين، سواء كان ذلك أثناء الإفطار أو السحور، مهم جدا للصحة الذهنية لأنه يخفف من زحمة الضغوط الحياتية، ويعزز من القدرة على التفكير السليم.
إدارة المخاطر الصحية الناتجة عن الأمراض
هناك أمراض يمكن أن تترك خلفها بصمات سلبية على الوظائف الذهنية مثل الداء السكري، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع الكوليسترول، والسمنة، والإدمان، والمرض العقلي. إن طلب المساعدة لعلاج تلك الأمراض والتحكم بها يجعل العقل بعيدا عن مخاطرها وما أكثرها.
ختاماً
إن معظم ما يعرفه العلماء عن الصيام وتأثيراته على الصحة الذهنية، جاء من بحوث أجريت على نماذج حيوانية، ولكن لا يعرف بعد إلى أي مدى ينطبق ذلك على البشر. إن البيانات التي تم جمعها من التجارب على الحيوانات في المختبر ومن بعض التجارب الأولية على الأشخاص، تفيد بأن التبديل بين فترات الأكل والصيام، كما الحال في صيام شهر رمضان، يشحذ القوى الذهنية ويحافظ عليها.
المصادر:
Mental health: Definition, common disorders, early signs, and more
What fasting does to the brain: Four ways it may help brain health
4 ways to keep your mind sharp during Ramadan