اعتدل طبيب الأسنان بارني كلارك Barney Clark (1921-1983) في سريره بمستشفى جامعة يوتا، وأخذ نَفَساً عميقاً تبعته فوراً نوبة شديدة من سعال عنيد. أرهقه السعال وضيق التنفس منذ أكثر من سنة حتى كاد لا يستطيع النهوض من سريره إلى الحمام دون مساعدة زوجته. كان كلارك قد بلغ من العمر 61 سنة، وكان يعاني من قصورٍ شديدٍ في القلب إثر إصابته بنوبات قلبية متكررة. ساءتْ حالته كثيراً في الأشهر الأخيرة، ولم تنجح العلاجات العادية في تحسين صحته، فجاء إلى جامعة يوتا أملاً بأن يحصل على عملية زرع قلب. كان يعرف جيداً أن فرصته في الحصول على قلب جديد هي فرصة ضئيلة، وأنّ أكثر من 35000 مريض قلب في أمريكا يحتاجون كل عام إلى عملية زرع القلب ولكن لا يحصل منهم على قلب جديد سوى حوالي 2000 بسبب قلة عدد المتبرعين.
الأطباء الشباب
كان الطبيب الرياضي الشاب ويليام ديفريز William DeVries (1943) الأمريكي من أصول هولندية قد تخرج من كلية الطب في جامعة يوتا سنة 1970، وتخصص في جراحة القلب بجامعة ديوك Duke University، ثم عاد ليرأس قسم جراحة القلب في جامعة يوتا سنة 1979. التقى هناك بعالِم شاب لامع اسمه روبرت جارفيك Robert Jarvik (1946). كان جارفيك يعمل على تطوير قلب صناعي جديد تحت إشراف أستاذ الأعضاء الصناعية ويليم كولف منذ سنة 1971.
وعندما جاء ديفريز إلى جامعة يوتا، كان تصميم القلب الصناعي قد تم زرعه في العجول، ونجح في بقائها حية لفترة وصلت إلى ثمانية أشهر. عمل ديفريز مع جارفيك وكولف في زرع القلب الصناعي الجديد (نموذج جارفيك-7) في العجول، وتوصلوا إلى نتائج جيدة أقنعت الهيئة الأمريكية لمراقبة الأدوية والأجهزة الطبية بالسماح لهم بتطبيقه في الإنسان. كانت آمالهم تنحصر بزرع القلب الصناعي في المرضى الذين أشرفوا على الموت بسبب قصور القلب الشديد، وذلك لإبقائهم على قيد الحياة فترة كافية تسمح لهم بالعثور على متبرع مناسب لعلمية زرع القلب الطبيعي. في تلك الظروف الحاسمة، جاء المريض بارني كلارك إلى المستشفى.
عملية جريئة
لم يتمكن الأطباء من العثور على متبرع مناسب للمريض بارني كلارك، فقرر ديفريز مع فريق الأطباء محاولة زرع القلب الصناعي له. لم يكن من السهل إقناع المريض بالقيام بهذه العملية التجريبية التي كانت محفوفة بالمخاطر، خاصة أنها كانت المرة الأولى التي سيجرب فيها نموذج القلب الصناعي جارفيك-7 عند الإنسان. طرح بارني كلارك كثيراً من الأسئلة عن نتائج هذه العملية في حيوانات التجربة، وسألتْ زوجته فيما إذا كان بارني سيظل يحبها بعد أن يزرع له قلب آلي!
بعد أخذ موافقة المريض، بدأت التحضيرات لهذه العملية التاريخية.
وفجأة في مساء يوم 2 ديسمبر 1982 تدهورتْ حالة بارني، واضطر الأطباء إلى تقديم موعد العملية بشكل إسعافي. استغرقت العملية سبع ساعات طويلة شعر ديفريز خلالها بكثير من التوتر والإرهاق، وبدلاً من الموسيقى الصاخبة وأغاني الروك التي اعتاد سماعها أثناء عملياته، ساد صمتٌ وهدوء وتركيز، إلا من موسيقى كلاسيكية خافتة لمقطوعة بوليرو للموسيقار الفرنسي الشهير رافيل، تخللها بين حين وآخر صوت طلبات ديفريز المتتالية من فريق المساعدين.
فوجئ ديفريز بشدة ترهل قلب بارني، وعندما استأصل القلبَ المريض، بدا الصدر فجوة كبيرة فارغة. وضع ديفريز القلب الصناعي الجديد، ووصله إلى المضخة الكبيرة التي أخذت تدفع الدم في جسم المريض المرهَق. مع شروق الشمس كان صوت المضخة الصناعية الجديدة يعلو على كافة الأصوات، ولكنه كان صوتاً يدل على الحياة والنجاح، فقد استطاع القلب الصناعي أن يضخ الدم في جسم المريض بارني، ويزوده بما يحتاج إليه من أوكسجين وغذاء.
متاعب النقاهة
في فترة النقاهة الحرجة بعد يومين من العملية، اضطر الأطباء إلى إجراء عملية إسعافية صغيرة للمريض بارني وذلك لخياطة تسرب للهواء حدث في رئته. وبعد العملية بخمسة أيام أصيب المريض أيضاً بنوبات صرع عولجت بالأدوية، ولكنها زادت إرهاق جسمه المريض. بعد أسابيع قليلة من العملية، اضطر ديفريز للقيام بعملية إسعافية أخرى لتبديل الجزء الأيمن من القلب الصناعي بسبب خلل في عمل أحد الصمامات فيه. وقال ديفريز متبسماً: " رغم أننا كنا محبَطين بسبب الخلل في عمل الصمام وما أدى إليه من تدهور في قدرة القلب الصناعي على ضخ الدم بكفاءة في الدورة الدموية، إلا أن العملية كانت سهلة جداً، فكل ما فعلته هو أنني فصلتُ الجزء الأيمن المعطل من القلب الصناعي، وطلبتُ قلباً أيمن جديداً، وأعدتُ لصقه بالجزء الأيسر، وانتهت العملية "
على الرغم من سوء حالة قلبه وجسمه قبل العملية، فقد تماثل بارني للتحسن ببطء، وخرج من العناية المشددة، واستمتع بالاحتفال بالعيد التاسع والثلاثين لزواجه من أونا لوي Una Loy التي كانت مسرورة لإدراكها أن زوجها مازال يحبها بقلبه الصناعي! انتشرتْ صورهما في الصحافة والتليفزيون مع فريق الجراحة والأبحاث. وبدأ الحديث عن ترتيبات خروجه من المستشفى إلى بيته، وما سيحتاج إليه من أجهزة وتوصيلات وبطاريات لازمة لضمان عمل القلب الصناعي بسلامة وأمان. إلا أن الفرحة لم تستمر طويلاً، فقد بدأت أعضاء جسمه بالانهيار تدريجياً، وظهر قصور الكُلية، ثم الكبد، واضطرابات تخثر الدم، وأُعيد إلى غرفة العناية المشددة، وإلى أجهزة المراقبة والتنفس الصناعي، حتى حمّ القضاء وتوفي بارني كلارك في 23 مارس 1982 بعد أنْ عاش بقلب صناعي مدة 112 يوماً.
مزيد من المتاعب
أثارت وفاة أول إنسان يعيش نحو ثلاثة أشهر بقلب صناعي كثيراً من الانتقادات والتساؤلات حول أخلاقيات هذا النوع من العمليات، والمسائل العويصة التي تطرحها في بعض الديانات، وعن الجدوى الاقتصادية لمثل هذه العمليات العالية التكاليف. تساءل بعض الأطباء والمسؤولين عما إذا كان من الأفضل توجيه هذه التكاليف الباهظة نحو التثقيف الصحي، والوقاية من الأمراض المعدية، وعلاج كثير من الأمراض المنتشرة. كما تعرض ديفريز وجارفيك شخصياً إلى كثير من الانتقادات والضغوط في وسائل الإعلام وفي الأوساط الطبية أيضاً.
توقفت الإعانات الحكومية عن دعم مزيد من الأبحاث في القلب الصناعي، واضطر ديفريز إلى الانفاق من ماله الخاص في محاولة لضمان استمرار المشروع. استقال جارفيك من جامعة يوتا سنة 1987 وأسّس شركة خاصة لمتابعة عمله وأبحاثه في القلب الصناعي. تحت ضغوط مالية صعبة، اضطر ديفريز لتقديم استقالته من جامعة يوتا وانتقل إلى مستشفى هيومانا في ولاية كنتاكي الأمريكية، حيث قام في 25 نوفمبر 1984 بإجراء ثاني عملية زرع قلب صناعي لمريض اسمه ويليام شرودر William Schroeder الذي عاش بقلب صناعي مدة 620 يوماً.
وعلى الرغم من ذلك فقد أثارت وفاة المريض الثاني مزيداً من المتاعب. وعلى الرغم من كل المصاعب القانونية والمالية، وكثير من الانتقادات المهنية الطبية، فقد تم زرع أكثر من خمسين قلب صناعي من نوع جارفيك-7 مع نهاية الثمانينيات في كافة أنحاء العالم. إلا أن النتائج ظلت محدودة، وقررتْ هيئة مراقبة الأدوية والأجهزة الطبية في أمريكا سحب ترخيص استعماله في 1990. قرر الجراح ديفريز التوقف عن ممارسة هذا النوع من العمليات، وعاد إلى القيام بعمليات القلب التقليدية المعتمدة حتى تقاعد في سنة 1999.
ويليام ديفريز William DeVries يحمل القلب الصناعي جارفيك-7 وإلى جانبه ويليم كولف Willem Kolf
الجراح ويليام ديفريز William DeVries بجانب المريض بارني كلارك Barney Clarck بعد نجاح عملية زرع القلب الصناعي 1982
ويليام ديفريز William DeVries على غلاف مجلة التايم بعد نجاح عملية زرع القلب الصناعي 2 ديسمبر 1982
روبرت جارفيك Robert Jarvik يعرض القلب الصناعي 1982
قلوب صناعية جديدة
لم ييأس العلماء، واستمروا في تطوير أجهزة القلب الصناعي لجعلها أصغر حجماً وأكثر كفاءة. تم تطوير نماذج عديدة من الأجهزة الآلية التي تقوم بعمل القلب بكامله (القلب الصناعي) في أمريكا وألمانيا وفرنسا. أغلب الأجهزة الحديثة هي محركات كهربائية صغيرة تعمل ببطاريات يمكن شحنها عن طريق أسلاك رفيعة، أو بالأمواج الكهرومغناطيسية عبر الجلد، بحيث لا يحتاج المريض لوجود أسلاك وأنابيب توصله ببطارية أو بمضخة خارجية. إلا أن أياً من هذه النماذج لم ينجح حتى الآن في المحافظة على حياة المريض فترات طويلة بسلامة وأمان. أطول فترة عاشها إنسان بقلب صناعي حتى الآن هي حوالي 4 سنوات. ويحتاج هؤلاء المرضى إلى أخذ أدوية سيولة الدم (المميعات) بشكل دائم، وإلى متابعة طبية دقيقة عالية التكاليف. ومازال زرع القلب الطبيعي حتى الآن هو العلاج الأفضل في الحالات المتقدمة من قصور القلب.
المصدر:
كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني