صحــــتك

هل لقاح الحصبة يسبب التوحّد؟

الصورة
باسل الخطيب
لقاح الحصبة
هي أم مثالية تعمل صيدلانية في مستشفى كبير في المدينة، أحضرت طفلتها الصغيرة إلى عيادتي لزيارتها الروتينية.
- الأم: اليوم عيد ميلادها الأوّل.. سنقيم اليوم لها حفلاً كبيراً دعونا له كل الأهل والأصدقاء، كل أمر متعلّق بها له خصوصية كبيرة ومعنى عميق بالنسبة لي ولزوجي.. إنّها طفلتنا الأولى كما تعلم يا دكتور.



- الطبيب: إنها مناسبة سعيدة حقّاً! طفلتك جميلة! وأكبر دليل على اهتمامك بها هو إحضارك لها على الموعد تماماً -كعادتك- لزيارتها الروتينية وإعطائها لقاحاتها.

- الأم: لقد قرأت بعناية جدول اللقاحات الذي تتبعه في عيادتك، وأنا أطلب منك أن تعطيها كل اللقاحات إلاّ ذلك اللقاح الذي يسبب التوحّد وأعني لقاح الحصبة والحصبة الألمانية والنكاف MMR.

ولقد قمت بأبحاث مفصّلة عن كل اللقاحات على الإنترنت، وما قرأته عن ذلك اللقاح مخيف حقاً، إنك تعرف مقدار اهتمامي بطفلتي وأرجو أن تحترم رغبتي في هذا الأمر.

- الطبيب: أرجو أن تتفضلي بالجلوس يا سيّدتي، فيبدو أن حديثنا سيطول!

* كيف بدأ الوهم؟
في عام 1998 نشرت مجلّة طبية رصينة هي (The Lancet) مقالة قصيرة كتبها طبيب بريطاني يدعى Andrew Wakefield يطرح فيها (فرضية) تقول إن لقاح MMR الذي يعطى للحماية من الحصبة والحصبة الألمانية والنكاف قد يسبب حصول التوحّد.

المقالة كما قلنا كانت قصيرة، وفي العدد نفسه كان مقال رئيس التحرير يتحدّث عن هذا الموضوع ويوضح أن نشر المقالة المذكورة كان لأسباب "حرية التعبير الطبي"، وأن الآراء المذكورة فيه لا تعدو كونها "فرضية لا دليل عليها"، وأن السماح للكاتب بطرح آرائه هو من مبدأ عدم إدارة الظهر لأية نظرية أو فرضية طبية، وليس من مجال كون المعلومات الواردة فيه مثبتة.



وما حصل في حقيقة الأمر هو أن جميع العاملين في وسائل الإعلام والناشطين والخائفين والمشككين والفضوليين قرؤوا المقالة القصيرة التي تقدّم (فرضية) ولم يعيروا أي انتباه للمقال الرئيس الذي فيه الإيضاح الهام.

ومنذ ذلك اليوم أصبح الأمر موضوع جدل لا ينتهي، يدفع ثمنه الأطباء في عياداتهم والعلماء في مخابرهم والكتاب في أعمدتهم. والمفارقة أن الكثير من الأمهات والآباء، حتى أولئك العاملين في مهن مرتبطة بالعناية الصحية، أصيبوا بالذعر فامتنعوا عن إعطاء اللقاح لأطفالهم.

* جدل طويل
لقد طال الجدل وكثرت البرامج الإعلامية الباحثة عن السبق الصحافي والإقبال الجماهيري في هذا الموضوع، لدرجة أن الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال وجدت نفسها مضطرة لتشكيل لجنة تدرس الأمر، وكان الاستنتاج النهائي أنه لا توجد علاقة بين اللقاح المذكور والتوحّد.

* دراسات متعددة
الحقيقة أن عمل اللجنة المذكورة لم يكن الجهد الوحيد في هذا المجال، فقد أجريت دراسات عديدة (حوالي عشرين دراسة في بلدان مختلفة ومراكز طبية متعددة)، وكان الاستنتاج النهائي  هو نفسه، أي عدم وجود علاقة لهذا اللقاح -بل وأي لقاح- مع التوحّد.

نذكر من هذه الدراسات على سبيل المثال دراسة هامة نشرت عام 2002 قام بها ثمانية باحثين بإدارة الدكتورة Kreesten Madsen وقد تناولت الدراسة حالة أكثر من نصف مليون طفل تلقوا اللقاح في الدنمارك بين العامين 1991 و1998.

وكان الاستنتاج النهائي لها بالحرف: "إن هذه الدراسة تقدّم دليلاً قويّاً على عدم وجود علاقة بين لقاح MMR وحصول التوحّد". وأجريت دراسة هامة أخرى جديرة بالذكر عام 2008 في مشفى Massachusetts General Hospital بمشاركة CDC، لم تجد أية علاقة بين اللقاح والتوحّد. وأهمية هذه الدراسة كانت في أنها قامت بإعادة جميع الخطوات التي قام بها الدكتور Wakefield ولكنها وجدت خطأ استنتاجاته جميعاً.

* تزييف العلم بحثا عن الشهرة
لقد وصل الأمر إلى أن (المجلس الطبي العام) في بريطانيا أصدر في عام 2010 -أي بعد 12 عاما من نشر الدراسة المذكورة- تقريراً يصف فيه الدراسة التي نشرها الدكتور Wakefield بأنها "مغرضة" و"مزيّفة" وبأن طريقة اختيار المرضى وإجراء الدراسة فيها الكثير من المغالطات المتعمّدة.



* سحب المقال!
استجاب الدكتور Richard Horton رئيس تحرير مجلّة The Lancet بسحب المقال المذكور من النشر العام، وأصدر تقريرا يقول فيه إنه بعد مراجعة تقرير المجلس المذكور وجد أن الطريقة التي أجري بها البحث كانت من أسوأ ما يمكن أن يحصل في أي بحث طبي، وبأن ما حصل أثناء الدراسة هو "مرعب".

وقد أثنت مراكز الوقاية والسيطرة على الأمراض في أميركا CDC على العمل الذي قامت به مجلّة The Lancet بسحب المقال، واستغلّت المناسبة لتذكير الأهل بأهمية اللقاحات لصحة أطفالهم.

* ثمن كبير
الحقيقة أن هذا المقال الذي أجري بطريقة غير علمية وغير أخلاقية كلّف الأوساط الطبية غالياً. والمفارقة الكبيرة هي أن الكثير من الذين قرؤوا المقال المذكور أو قرؤوا عنه لم يعلموا شيئاً عن التداعيات التي حصلت لاحقاً والتي تكلّمنا عنها الآن، ولا يزالون مصابين بالرعب من اللقاح المذكور!

* خلاصة مؤسفة
إذا أردنا أن نلخّص الموضوع فإننا نقول إن طبيباً باحثاً عن الشهرة -ولو من أبوابها الخلفية- أراد أن يحققها من خلال مبدأ (خالف تعرف)، وبحث عن مشكلة طبية هي (التوحّد) تعتبر أسبابها الحقيقية لغزاً للكثيرين، فقام بوضع فرضية هي أن لقاح MMR هو السبب فيها، وأجرى دراسة اتبع فيها طريقاً غير أخلاقية زيّف فيها الأرقام والحقائق وقام بليّ عنق النتائج لتخدم فرضيّته. ثم إن مجلة جادّة هي The Lancet قامت بإعطاء هذا الطبيب منبراً لنشر أفكاره المغلوطة، فحصل ما حصل.

وفي الحقيقة فإن ما فعلته المجلّة هو خطأ تاريخي أثر على مصداقيّتها في النهاية، وحتى قيامها بسحب المقال بعد 12 عاماً من إبقائه في التداول لم يمحُ تداعيات الخطأ الذي ارتكبته، والذي وصفه الدكتور William Schaffner رئيس قسم الأمراض الوقائية في كلية الطب بجامعة Vanderbilt بأنه (غير مسبوق)!

* أسباب التوحّد
إن التوحد مشكلة طبية عويصة، ويعمل العلماء اليوم على فك ألغازها، وأسباب هذا المرض كثيرة منها الجينية والدوائية والعصبية والبيئية، ولا بد من أن يكون لنا حديث آخر في هذا المجال، ولكن العلم أثبت بالوجه القاطع أن لقاح MMR ليست له أية علاقة من قريب أو بعيد بهذا المرض، فهذا اللقاح يحمي من ثلاثة أمراض خطرة قد يكون لها تأثير كبير على الدماغ كما في الحصبة وعلى السمع في المواليد كما في الحصبة الألمانية وعلى أعضاء متعددة في الجسم كما في النكاف.

* غيّرت رأيي!
قلت للأم الكريمة التي كانت تستمع بانتباه ــ وفي بعض الأحيان بذهول ــ : على كل أنا سأحترم رغبتك يا سيّدتي!
قالت: في ماذا؟
ــ  في عدم إعطاء لقاح الحصبة!
ــ وهل تعتقد يا دكتور -بعد كل ما قلت- أنني لا أزال على رأيي؟ أرجو أن تعطيها جميع لقاحاتها اليوم وأوّلها لقاح الحصبة. أنا أعرف في عملي اليومي أهمّية الدليل والدّراسات العلمية ولن أخالف القاعدة اليوم وأتبع ثقافة الوهم والتزييف!
آخر تعديل بتاريخ
24 يوليو 2019
Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.