تَنَبَّه العالم ألكساندر فلمينغ بشكل مبكر بعد اكتشافه للبنسلين إلى أنّ الجراثيم قد تُصبح مُقاوِمة للبنسلين، خاصة إذا استُخدِم هذا المُضاد الحَيوي بجرعات صغيرة، أو إذا أُعطِي لفترة قصيرة غير كافية للقضاء على المرض تماماً. ونَبَّهَ الأطباء في محاضرات كثيرة حول العالَم إلى ضرورة عدم استخدام البنسلين إلا بعد التأكد من التشخيص الصحيح، وأهمية أنْ يُعطَى المريض عند استخدام هذا الدواء جرعةً جيدةً ولفترةٍ كافيةٍ، لأنّ عدم فِعل ذلك قد يساعِد على ظهور المقاومة أو المَناعة لدى الجراثيم ضد البنسلين.
وبالفعل انتشَر استخدام البنسلين، ونَجَحَ في علاج كثير من الأمراض الجرثومية، وظَنَّ العلماء والأطباء أنّ البشرية قد نَجَحَتْ بفضل هذا المضاد الحيوي في القضاء على مشكلة الالتهابات الجرثومية إلى الأبد. ولكن سرعان ما تَحقَّقَت نبوءة فليمنغ، وظَهَرت جراثيم مُقاوِمَة للبنسلين. بل فوجئ العلماء بأنهم كلما اكتَشَفوا مُضادَّاً حَيوياً جديداً فعالاً، ظَهَرَتْ مُقاوَمة الجراثيم له بعد فترةٍ من استخدامه. بل وكانت المفاجأة أعظم عندما وَجَدوا أنّ بعض الجراثيم تَتَمتَّع بمقاومة طبيعية لبعض المُضادَّات الحَيوية الجديدة حتى قَبل أنْ تَتَعَرَّض لها! ولمْ يمكن فَهم هذه الظواهر الحَيوية إلا بعد تَطَوّر معارفنا في عِلم المَناعة.
تنوع المادة الوراثية في الجراثيم
اكتَشَف العلماء وجود تَنوّع في المادة الوراثية عند الجراثيم، مثلما يوجَد التَنوّع فيها عند بقية الكائنات الحية. وعلى الرغم من أن الجراثيم هي كائنات وحيدة الخلية، أي أنّ جِسم كلِّ منها يَتألَّف مِن خَلِيَّة واحدة، إلا أنّ أنواع الجراثيم تختلف عن بعضها باختلاف مادتها الوراثية. وحتى في النوع الواحد منها، مثل جرثومة المُكَوَّرات العنقودية الذهبية Staphylococcus aureus، يختلف بعض أفرادها عن بعضها الآخر اختلافاً قد يكون طفيفاً، ولكنه كافٍ لكي يَمنحها ميزة ما في بعض الأحيان، كأن تكون مُقاوِمة لبعض المضادات الحيوية.
بقاء الجراثيم المقاوِمة للمضادات الحيوية
عندما يَكتشِف العلماء مُضَادَّاً حيوياً جديداً، ويَستخدمونه في علاج مريض مصاب بالتهاب جرثومي معيّن، يَقضي المُضادّ الحَيوي الجديد على الجراثيم التي لا تستطيع مقاوَمَته، بينما تَنجو قلّة منها تَستطيع مقاوَمته بفضل اختلاف طفيف تَحمله في مادتها الوراثية. ومع مرور الزمن وتكرار تَعَرُّض هذا النوع من الجراثيم للمُضَادِّ الحَيوي الجديد، تزداد نسبة الجراثيم المُقاوِمة له بطريقة تشبه الانتقاء الطبيعي غير المباشر الذي يؤديه المُضَادُّ الحيوي، إذ يَقضي استخدامه على الجراثيم، فلا يتبقى منها إلا تلك التي لديها مَناعة ضدَّه.
ومع مرور الوقت والتَعَرُّض المُتَكرر لهذا المُضادّ الحَيوي الجديد تَزول الجراثيم التي لمْ تتمكن من "التأقلم"، وتبقى الجراثيم المُقاوِمَة. أي أنّ مقاوَمَة الجراثيم للمضادّات الحيوية ليس قراراً "إرادياً" تَتخذه الجراثيم بأن "تتأقلم" و"تقاوِم" المُضادّ الحّيوي الجديد، بل إنّ قضاء المُضادّ الحيوي على الجراثيم التي لا تستطيع مقاوَمته، يؤدي إلى بقاء الجراثيم "الأصلح" و"الأقدر" التي تتمتع بالقدرة على مقاوَمته، ومن ثم إلى تكاثرها وانتشارها. والخطر الأعظم الذي قد تواجهه البشرية في المستقبل هو انتشار الجراثيم المقاوِمة لجميع أنواع المضادات الحيوية المتاحَة لدينا.
بقاء خلايا السرطان المقاوِمة للعلاج
تَحدث حالة مشابهة في الصراع بين خلايا المَناعة وخلايا السرطان، وذلك لأنّ خلايا سرطانٍ معيّن ليست متماثلة تماماً في مادتها الوراثية، بل غالباً ما تَحدث فيها تَغيرات وراثية طفيفة أثناء انقسامها السريع وتكاثرها العشوائي. وعندما يُعالَج المريض بالأدوية الكيماوية أو بالأشعة، يقضي العلاج على خلايا السرطان التي تتأثر به، بينما تَبقى بعض خلاياه حيَّة لأنها تتمتَّع باختلافات وراثية، قد تكون طفيفة ولكنها كافية لكي تجعل هذه الخلايا السرطانية مقاوِمة للعلاج المستعمَل، و"تَغشُّ" خلايا المَناعة فلا تَقضي عليها.
وهكذا تعود الخلايا السرطانية المُتَبَقيّة فتَتكاثر وتَنتشر من جديد، ويَحدث ما يسميه الأطباء "انتكاسة المرض" أو عودته. ومِن كل ذلك نستطيع تقدير أنّ أفضل علاج للسرطان هو الاستئصال الجراحي التام إنْ أمكن تطبيقه، وذلك لأنه يُخَلِّص المريض من كافة الخلايا السرطانية الخبيثة الموجودة في جسمه. وبالطبع، لا يمكن تحقيق ذلك إلا في الحالات التي يُكتشَفُ فيها وجود السرطان في موضع محدَّد في الجسم يمكن استئصاله بعملية جراحية قبل أنْ يَنتشر. أو إذا استطعنا تحفيز خلايا المناعة للقضاء على خلايا السرطان، فلربما تتشكل لدى المريض مناعة دائمة ضد هذا النوع من السرطان، فلا تحدث الانتكاسة بعد الشفاء.
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني