تخيل الأدباء منذ زمن طويل إمكانية الحصول على قلب آخر أو تغيير القلب، فقال الشاعر محمود الوراق آملاً في علاج حالة عشقه اليائس:
لو كان ليْ قلبان لعشتُ بواحدٍ وتركتُ قلباً في هواكِ يُعَذَّبُ
لكنّ لي قلباً تمَلَّكه الهوى لا العيشُ يحلو له ولا الموتُ يقربُ
وليْ ألفُ وجهٍ قد عرفتُ مكانه ولكنْ بلا قلبٍ إلى أين أَذهبُ
ويُنسَب مثل ذلك إلى قيس بن الملوح وإلى عنترة، والله أعلم. وهناك أساطير وقصص دينية لدى كثير من الأمم تحدثت عن تغيير القلب أو غسله للتوصل إلى رؤية دينية جديدة أو حياة أبدية مستمرة. وكذلك تمنى العلماء والأطباء أن تكون لديهم القدرة على تبديل القلب الواهن لإنقاذ المرضى حين تفشل جميع الأدوية والعقاقير، وجميع أجهزة دعم الدورة الدموية.
تجارب أولى في زرع القلب
في بدايات القرن العشرين قام الباحث الأمريكي الشهير أليكسيس كاريل بزرع القلب في حيوانات التجربة، وقد مُنح كاريل جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا سنة 1912 تقديراً لأبحاثه في وصل الشرايين والأوردة، ويُعتبر بحق رائد جراحة الأوعية الدموية وزراعة الأعضاء. لم يتابع أحد أبحاثه الرائدة في زرع القلب حتى قام فرانك مان Frank Mann (1887-1962) في مستشفى مايو بأمريكا بنشر تقرير عن طريقتين لزرع القلب في حيوانات التجربة، وسجَّلَ ظاهرة رفض الجسم للعضو الغريب المزروع فيه، مما يؤدي إلى فشله وتموته، ولم يعش أي حيوان في تجاربه بعد زرع القلب أكثر من ثمانية أيام.
في الاتحاد السوفييتي بدأ العالِم فلاديميير ديميخوف Vladimir Demikhov (1916-1998) منذ 1946 بزرع القلب عند الكلاب، واستطاع التوصل إلى أن يعيش بعضها 32 يوماً بعد عملية الزرع. كما حاول إجراء عمليات زرع القلب والرئة في حيوانات التجربة. ولم تترجَم أعماله إلى اللغة الإنكليزية حتى سنة 1962. لم يكن من الممكن أن تتطور زراعة القلب إلا بعد أن تطورتْ وسائل تشخيص ودراسة القلب ووسائل التخدير، وبعد أن تحسنتْ خبرة الجراحين في تطبيق طرق التبريد في جراحة القلب، ثم في تطبيق مضخة القلب والرئة في عمليات القلب المفتوح. وبعد تطور كل تلك الأساليب التي أثبتتْ نجاحها في عمليات القلب المختلفة، بقيتْ مشكلة صعبة لم يمكن حلها في عملية زرع القلب وهي مشكلة رفض الجسم للقلب المزروع.
لم يتمكن أطباء القلب من حل هذه المشكلة إلا بعد أنْ نجحتْ عمليات زرع أعضاء أخرى، مثل زرع الكُلية، وبعد أنْ تقدمت معارفهم عن مناعة الجسم وأساليبه في مواجهة الأعضاء الغريبة عنه، وبعد أن توصل العلماء إلى أدوية فعالة تقلل مناعة الجسم ورفضه لزراعة الأعضاء.
زرع الكُلية
كان يوم 23 ديسمبر 1954 يوماً هاماً في تاريخ الطب وفي تاريخ مستشفى بيتر بينت بريغهام في بوسطن بأمريكا حيث نجح الأطباء موراي وميريل وهاريسون Murray, Merrill, Harrison لأول مرة في التاريخ بإجراء عملية زرع كلية من توأم إلى أخيه. وعلى الرغم من أن العملية قد أجريتْ في توأم حقيقي، ولم يحدث أي رفض للكلية المزروعة، إلا أن نجاح أول عملية نقل عضو كامل من إنسان إلى آخر أثار اهتمام العالَم، وشجع العلماء على متابعة أبحاثهم في المناعة وزرع الأعضاء.
خطوات حثيثة نحو زرع القلب
وفي خطوات أخرى باهرة خلال الفترة 1957-1959 نَشَرَ ويب وهوارد ونيلي Web, Howard, Neely في جامعة ميسيسيبي نتائج أبحاثهم في إجراء عمليات زرع القلب والرئة في حيوانات التجربة بنجاح مع استخدام مضخة القلب والرئة. ولعل أهم الأبحاث التي كان لها أثر كبير في تأسيس عملية زرع القلب هي تلك التي أجراها فريق نورمان شَمواي Norman Shumway (1923-2006) في جامعة ستانفورد في أمريكا، والتي بدأ نشر نتائجها منذ سنة 1960. درس شَمواي الطب في جامعة مينيسوتا تحت إشراف والتن ليليهاي، وكان زميله في الدراسة كريستيان برنارد الذي سيصبح أول من يُجري عملية زرع القلب عند الإنسان في أواخر سنة 1967 في أفريقيا الجنوبية.
كما كان ريتشارد لوور Richard Lower (1929-2008) من رواد البحث العلمي في زراعة القلب. درس لوور الطب في جامعة كورنيل في نيويورك، واشترك مع شَمواي في أبحاثه الهامة عن زراعة القلب في جامعة ستانفورد. وتوصلا معاً إلى طريقة لزرع القلب مازالت تتبع حتى هذه الأيام. غادر لوور إلى كلية طب فرجينيا حيث تابع أبحاثه وعملياته الشهيرة. في أواخر الستينيات، كانت أبحاث وتجارب زراعة القلب عند الحيوانات تجرى في مراكز عديدة في العالَم، أهمها الفرق التي قادها نورمان شَمواي، وريتشارد لوور، وأدريان كانتروفيتز، ودنتون كولي، ومايكل دبغي في أمريكا، وكريستيان برنارد في أفريقيا الجنوبية. ولكن، كان على العالم أن ينتظر حتى يوم الأحد 3 ديسمبر 1967 حين نجح كريستيان برنارد في إجراء أول عملية لزرع القلب عند الإنسان.
كريستيان برنارد Christiaan Barnard (1922-2001) أول من قام بعملية زرع القلب عند الإنسان بتاريخ 3 ديسمبر 1967 في أفريقيا الجنوبية
المصدر:
كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني