صحــــتك

أول عملية ناجحة في زرع القلب عند الإنسان

مخطط عملية زرع القلب
مخطط عملية زرع القلب عند الإنسان

ولِد كريستيان برنارد Christiaan Barnard (1922-2001) في أفريقيا الجنوبية، وكان والده قسيساً من أصول هولندية. درس الطب في جامعة كايب تاون وتخرج منها سنة 1945. عمل الشاب الوسيم الطموح في أرياف تلك المدينة حتى سنة 1951، ثم أتيحت له الفرصة للذهاب في بعثة دراسية إلى جامعة مينيسوتا في أمريكا سنة 1956 حيث درس مدة سنتين تحت إشراف كبار الرواد في جراحة القلب آنذاك مِنْ أمثال ليليهاي، كما اشترك معه في الدراسة أطباء أصبحوا فيما بعد من أهم الجراحين والباحثين في أمراض القلب مِنْ أمثال نورمان شَمواي. كانت جامعة مينيسوتا تعج في تلك الأيام بنشاط كبير في مجال جراحة القلب، وتطوير مضخة القلب والرئة، وأبحاث تطوير الأجهزة الإلكترونية في تشخيص وعلاج أمراض القلب، وتطوير أجهزة تنظيم دقات القلب ... وكان مختبر الحيوانات فيها نشيطاً في القيام بأبحاث العمليات الجراحية مثل عمليات زرع القلب.

عاد الشاب برنارد إلى أفريفيا الجنوبية محملاً بكثير من الأحلام والطموح في تطوير جراحة القلب في بلده. فأسس أول قسم لجراحة القلب في في مستشفى غروت شورGroote Schuur Hospital حيث أجرى أول عملية قلب مفتوح ناجحة في أفريقيا الجنوبية سنة 1958. عمل أستاذاً مساعداً في جامعة كيب تاون، كما أجرى كثيراً من الأبحاث في مختبر الحيوانات بمشاركة أخيه الأصغر الجراح ماريوس برنارد Marius Barnard. وفي سنة 1960 ذهب في بعثة أخرى إلى الاتحاد السوفييتي حيث تابع دراسته في زرع الأعضاء في حيوانات التجربة، كما زار لوور Lower في أمريكا سنة 1966 واطلع على طريقته في إجراء عملية زرع القلب، وعندما عاد إلى أفريقيا الجنوبية تابع أبحاثه في زرع القلب بطريقة شَمواي ولوور عند الكلاب، حتى حانت الفرصة المناسبة.

قصة العملية الأولى

غادر برنارد مستشفى غروت شور في عصر يوم سبت عادي وهو يشعر بإحباط شديد عندما تذكر مريضه لويس واشكانسكي Louis Washkansky الذي كان يرقد في المستشفى منذ أسابيع وهو يعاني من هبوط شديد في القلب لم يستطع الأطباء أن يجدوا له علاجاً. حاول برنارد أن يجد متبرعاً مناسباً ليقوم بزرع قلب جديد له قبل ذلك بعشرة أيام، ولكن جهوده اصطدمت بعقبات إدارية وقانونية وأخلاقية لم تسمح له بالقيام بهذه العملية. كانت الصعوبات القانونية صعبة الحل، إذ كانت الوفاة لا تتحقق قانونياً في تلك الأيام إلا بعد التأكد من توقف القلب عن النبضان، ولكن يجب زرع القلب فوراً بعد ذلك مباشرة، لأن أي تأخير في عملية الزرع وفي إعادة تروية القلب المزروع يؤدي إلى تموت القلب الجديد وفشل العملية تماماً. فمِنْ ناحية المريض الذي سيُزرع له القلب يجب الإسراع في نقل القلب مِنَ المتبرع، ولكن مِنْ ناحية المتبرع يجب الانتظار للتأكد مِنَ الوفاة وإلا اعتُبرت العملية قتلاً. وقد حدث فعلاً أن اتُهم بعض رواد عملية زراعة القلب بقتل المتبرع، ورُفعتْ ضدهم قضايا حقوقية!

على الرغم من موافقة أهل المتوفى على التبرع، لم تسمح إدارة المستشفى ولا فريق الأطباء بزرع القلب في وقت مناسب، واضطر برنارد إلى إلغاء العملية. زاد الشعور بالإحباط واليأس مِنْ شدة المرض على واشكانسكي المقامر الذي لم يتجاوز عمره 53 سنة، ولكن قلبه كان قد أُرهِق نتيجة أزمات قلبية متكررة أضعفته كثيراً ولم يعد قادراً على ضخ الدورة الدموية الكافية، فأصيب جسمه بالضعف والوهن الشديد، وتراكمت السوائل في رئتيه وبطنه، وأصبح كل شيء صعباً حتى مجرد التنفس والأكل والنوم ملء الجفون.

كان برنارد مستلقياً يستمع إلى الموسيقى في منزله عندما رنَّ جرس الهاتف، وقال الطبيب المناوب جملة واحدة: " لدينا متبرعة مناسبة ". قفز برنارد من كرسيه وهرع عائداً إلى المستشفى. كانت المريضة المتوفاة شابة لم يتجاوز عمرها 25 سنة، وقد أصيبت بحادث سيارة ظُهر ذلك اليوم أدى إلى رض شديد في الدماغ وكسور عديدة في رأسها. أقر الأطباء بعدم قدرتهم على إنقاذها، وكان على برنارد أن يقنع والدها بالموافقة على التبرع بقلبها لإنقاذ مريض آخر هو واشكانسكي. كان ذلك قراراً صعباً جداً على الوالد المسكين الذي كان قد فقد زوجته أيضاً في ذلك الحادث الأليم، ولكنه استعرض في ذاكرته خلال دقائق قليلة حياة ابنته وفضائلها ورغبتها الدائمة في مساعدة الآخرين، وقدر أنها لن تتردد بتقديم قلبها في سبيل إنقاذ حياة. واستجاب قائلاً: " إذا لم تستطيعوا إنقاذ ابنتي فعليكم أن تحاولوا إنقاذ هذا المريض ".

ذهب برنارد لمقابلة مريضه واشكانسكي، الذي قال له: " إنني رجل مقامر، وتتغير الحظوظ دائماً في اللحظة الأخيرة. هل يتغير الحظ نحوي هذه المرة؟ أم ضدي؟ " أجاب برنارد مبتسماً: " بل في صالحك هذه المرة ". تم تحضير المريض للعملية التي تُجرى لأول مرة في التاريخ. شعر برنارد بقشعريرة ورهبة، تذكر كل تلك الكلاب التي قام بزرع القلب لها في المختبر. لم يعش أي منها أكثر من شهور قليلة، ولم تكن نتائجه المخبرية تماثل تلك النتائج الجيدة التي كان ينشرها شَمواي ولوور وكانتروفيتز في أمريكا. كما توفرت لديهم كل وسائل الدعم المتقدمة في أمريكا، بينما كان يعمل هو في منطقة فقيرة من أفريقيا الجنوبية ليس في كثير من بيوتها ولا حتى جهاز تليفزيون. والآن سيقوم هو مع أخيه ماريوس ومساعده الجراح رودني هويستون Rodney Hewiston  بمحاولة للقيام بأجرأ عملية في تاريخ الطب، وتخطي التحدي الأكبر ... زرع القلب.

خطوات العملية

بدأت العملية في الساعة الثانية والثلث من صباح يوم الأحد 3 ديسمبر 1967. عندما شاهد برنارد قلب واشكانسكي المتضخم المترهل لأول مرة بدا له وكأنه: " بقايا وأطلال قلب مرهق ... يتقلص وينخفض ويرتفع مثل ملاكم ضخم أرهقته المباراة قبل أن يسقط أرضاً في الحلبة ". انتقل برنارد إلى غرفة العمليات الثانية المجاورة حيث كان أخوه ماريوس يحضر لعملية أخذ القلب من المريضة المتوفاة.

انتظرا قليلاً حتى تم التأكد من الوفاة، وقررا البدء في استئصال قلب المتبرعة. عاد برنارد إلى غرفة العمليات الأولى حيث كان 14 طبيباً وممرضة وفنياً يعملون في تحضير المريض واشكانسكي لعملية الزرع. تم وصل المريض إلى مضخة القلب والرئة لدعم الدورة الدموية أثناء عملية زرع القلب. عاد برنارد إلى غرفة العمليات الثانية حيث تم استئصال قلب المتبرعة. حمل برنارد القلب الفتي الصغير بكلتا يديه، وركز كل انتباهه ونظراته على القلب بينما مشى ببطء وهدوء 31 خطوة عائداً إلى غرفة العمليات الأولى.

عندما تم استئصال قلب واشكانسكي تهيب برنارد من منظر الصدر الفارغ الكبير، وشعر برهبة اللحظة التاريخية وعظم مسؤوليتها، ولكنه لم يتردد طويلاً، وأشار إلى مساعده هويستون، ووضعا القلب الجديد في صدر المريض واشكانسكي. كتب برنارد لاحقاً عن تلك اللحظة قائلاً: " هجع القلب ساكناً في صدر المريض دون أن تظهر عليه إمارات الحياة.

انتظرنا بما بدا لنا وكأنها ساعات طويلة، حتى بدأ يرتخي قليلاً، ثم في لحظة خاطفة مثل شعاع من نور بدأ القلب الجديد بالانقباض ببطء شديد، ثم تسارعت نبضاته تدريجياً حتى ظهر إيقاع الحياة الرائع ". في الساعة السادسة وثلاث عشرة دقيقة، تم فصل المريض عن مضخة القلب والرئة، ظهر بعض التردد البسيط في عمل القلب الجديد عندما كان عليه تحمل عبء الدورة الدموية كاملاً دون مساعدة المضخة الصناعية، إلا أنه عاد للانقباض بقوة، وسُجل ضغط الدم في المستويات الطبيعية، كما ظهر تخطيط القلب طبيعياً ومنتظماً. ربح برنارد السباق، وأصبح أول رجل في التاريخ ينجح في القيام بعملية زرع القلب عند الإنسان. مد برنارد يده وصافح مساعده رودني هويستون قائلاً: " لقد نجحنا...بحق السماء...لقد نجحنا ".

وفي اليوم التالي

بعد ذلك بأيام ظهرتْ صور المريض واشكانسكي في الصحف والمجلات وعلى شاشات التليفزيون والأخبار السينمائية في كافة أرجاء العالَم. كان يبدو سعيداً وهو يتماثل للشفاء، ويتناول طعامه بنفسه دون أي مساعدة. كما ظهرتْ صور الجراح الشاب المغمور كريستيان برنارد في كل مكان، وأخذ العالَم يتساءل: كيف؟ ولماذا في أفريقيا الجنوبية؟ ومن هو هذا الطبيب الوسيم الجديد الذي لم يسمع به أحد من قبل؟ وخلال أيام أصبح برنارد نجماً عالمياً تتسابق إلى لقائه وسائل الإعلام العالمية.

إلا أن تلك الفرحة الغامرة لم تستمر طويلاً، فبعد أسبوع من العملية تدهورت حالة واشكانسكي من جديد، وأصيب بحالة رفض للقلب المزروع والتهاب شديد في الرئة أدى إلى وفاته بعد 18 يوماً من العملية. وفي اليوم الذي دفن فيه واشكانسكي، غادر برنارد إلى أمريكا لإجراء لقاء تليفزيوني خاص، ولمقابلة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون. بعد ذلك بأسبوعين فقط قام برنارد بعمليته الثانية لزرع القلب، وعاش ذلك المريض الثاني 18 شهراً. أما مريضه الأشهر ديرك فان زيل Dirk van Zyl فقد عاش أكثر من 23 سنة.

 

كريستيان برنارد Christiaan Barnard (1922-2001) أول من قام بعملية زرع القلب عند الإنسان بتاريخ 3 ديسمبر 1967 في أفريقيا الجنوبية

 

المريض لويس واشكانسكي Louis Washkansky أول من أجريت له عملية زرع قلب في التاريخ، بعد العملية بأيام مع الدكتور كريستيان برنارد في غرفة العزل الطبي

 

كريستيان برنارد Christiaan Barnard (1922-2001) على غلاف مجلة التايم، عدد 11 ديسمبر 1967

تنافس عالمي سيء

أثارتْ عملية برنارد الأولى لزرع القلب عند الإنسان ثورةً من النشاط الإعلامي في كافة أرجاء العالَم، وأصبح برنارد بين ليلة وضحاها نجماً عالمياً غطتْ صُورهُ الصحف والمجلات في كل مكان، كما حفزتْ كثيراً من مراكز الأبحاث في العالَم، ودفعتهم إلى مزيد من الجرأة في تطبيق أبحاثهم في زراعة القلب على المرضى من البشر، وفي ذلك كانت كارثة عالمية. إذ أنه رغم تقدم البحث في كيفية إجراء عملية زرع القلب، إلا أن الأبحاث في دراسة مناعة الجسم وكيفية السيطرة على رفض الجسم للقلب المزروع لم تكن قد تطورت بعد إلى درجة كافية، فكانت النتائج كارثية.

بينما كانت فرق أبحاث زراعة القلب في أمريكا تختلف حول الجوانب القانونية في تعريف وفاة الإنسان، وفيما إذا كانت تتحقق بتوقف القلب أم بتوقف الدماغ، قام كريستيان برنارد بإجراء أول عملية ناجحة لزرع قلب عند الإنسان. بعد تلك العملية بثلاثة أيام فقط قام كانتروفيتز في نيويورك بأول عملية لزراعة قلب في أمريكا، في حين أَجرى شَمواي أول عملياته لزرع القلب عند الإنسان بتاريخ 6 يناير 1968، ولوور في مايو 1968.

وبعد سنة واحدة من إجراء حوالي مئة عملية لزرع القلب عند الإنسان تبين أن أغلبها قد ناله الفشل بسبب رفض الجسم للقلب المزروع، وتوفي أكثر من 60% من المرضى خلال أقل من سنة. توقفتْ أغلب المستشفيات تماماً عن إجراء هذه العملية، ولم يتابع البحث العلمي الجاد فيها سوى الباحثَين الرائدَين شَمواي ولوور. وهكذا يعتقد بعض المؤرخين في الطب أن جرأة كريستيان برنارد في القيام بأول عملية ناجحة لزرع القلب عند الإنسان ربما أدت في نتيجتها النهائية إلى تأخير التطبيق العملي السليم لزراعة القلب عند الإنسان.

الرائد الصامد

يَعتبر أكثر مؤرخي الطب أن نورمان شَمواي Norman Shumway (1923-2006) هو الرائد الحقيقي الذي أرسى قواعد عمليات زراعة القلب عند الإنسان. ولد شَمواي في أمريكا سنة 1923. كان يريد أن يدرس القانون، ولكن خدمته العسكرية قادته إلى دراسة الطب، فنال شهادة الطب سنة 1949. تابع بعدها دراسة الجراحة في جامعة مينيسوتا تحت إشراف الجراح الشهير والتون ليليهاي.

وفي 1958 انتقل إلى جامعة ستانفورد في كاليفورنيا حيث أسس جراحة القلب فيها، وقام بمئات من عمليات زرع القلب في حيوانات التجربة، وضع فيها الأسس التقنية لإجراء هذه العملية، وأعلن أنه مستعد لإجرائها عند الإنسان منذ 1967 إذا توفر المتبرع المناسب. كما قام بكثير من الجهود لتوضيح الأساس الطبي والقانوني والأخلاقي لمفهوم الوفاة الدماغية الذي أفسح مجال التبرع بالأعضاء من المتوفين إلى المرضى.

وفي يناير 1968 قام شَمواي بإجراء أول عملية زرع قلب عند الإنسان في جامعة ستانفورد، وعاش ذلك المريض فترة 14 يوماً توفي بعدها بسبب التهاب حاد في المرارة ونزف هضمي والتهابات شديدة. بعد فورة الحماس الشديد التي أطلقها برنارد في أواخر 1967، توقفتْ أغلب المستشفيات والمراكز الجامعية عن إجراء زرع القلب عند الإنسان بعد 1968 بسبب النتائج العامة السيئة. وكان رفض القلب المزروع أهم أسباب الفشل. لم يستمر في القيام بهذه العملية سوى شَمواي ولوور.

نتائج البحث العلمي الدؤوب

نشر شَمواي في سنة 1971 نتائج 26 عملية زرع قلب عند الإنسان ظل فيها 26% من المرضى على قيد الحياة مدة سنتين بعد العملية. وعلى الرغم من أن هذه النتائج تبدو متواضعة، إلا أن أغلب هؤلاء المرضى لم يكن يُتوقع لهم أنْ يعيشوا أكثر من ستة أشهر. استمر شَمواي في أبحاثه بإصرار وصمود، وتوصل إلى طرق لتشخيص رفض القلب بشكل مبكر، وإلى علاج هذا الرفض بالأدوية المخفضة للمناعة.

وفي 1973 اكتشف طريقة أخذ عينة بالإبرة من عضلة القلب لتشخيص رفض القلب قبل أن يشتد، وتمكن من التوصل إلى بقاء 29% من المرضى على قيد الحياة مدة 3 سنوات بعد زرع القلب. كانت تلك أفضل نتائج ممكنة في تلك الظروف، ولم يكن من الممكن تحسينها أكثر من ذلك إلا بتحقيق مزيد من الاكتشافات الحاسمة في السيطرة على المناعة وتحسين أدوية مناعية جديدة لضبط رفض الجسم للقلب المزروع، مثل دواء السيكلوسبورين الذي أدى اكتشافه إلى تحسن كبير في نتائج عمليات زرع الأعضاء.

 

نورمان شَمواي Norman Shumway (1923-2006) مؤسس علم زرع القلب عند الإنسان

 

المصدر:

كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني

آخر تعديل بتاريخ
30 مارس 2023
Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.