في ممر ضيق لكلية الطب، فتح مات ستيوارت خزانة كبيرة ليكشف عن عشرات الأرفف المكدسة بصناديق خشبية وصوانٍ، بعضها لا يقل عمره عن 100 عام، تحتوي هذه الصواني على شرائح رقيقة (عينات) من عظام الجمجمة البشرية وأعضاء السمع والتوازن، والتي قال عنها "هنا يكمن تاريخ جونز هوبكنز" في إشارة إلى جامعة هوبكنز التي جمعت هذه العينات من أكثر من 5000 مريض. إذ جاءت الحاجة إلى استخدام هذه العينات كبديل لعينات الأذن الداخلية من الأحياء والتي تحتاجها الدراسة لمعرفة الإجابة على السؤال أعلاه.
بيانات ودراسات سابقة
حتى الآن، كانت البيانات والإحصائيات حول مشاكل الأذن المرتبطة بالإصابة بـ كوفيد 19 غير واضحة. ووجدت تقارير حالات واحدة متفرقة تتناول الأعراض والمشاكل التي يعاني منها مريض واحد، وبعض الدراسات الصغيرة عن أن بعض مرضى كوفيد 19 يعانون من فقدان سمع كبير وسريع إضافة إلى طنين ومشاكل في التوازن، واختلفت التقديرات حول مدى انتشار هذه الأعراض.على الرغم من الأعداد الضخمة للإصابة بهذا الفيروس حول العالم، وتزايد نسبة المرضى الذين ظهرت لديهم مشاكل في السمع أو التوازن بعد الإصابة بفيروس كوفيد-19، إلا أنه لم يتم ربط هذه المشاكل بالإصابة بالفيروس، ولم يتم ذكر أي من هذه المشاكل كأحد أعراض الإصابة بهذا الفيروس أو مضاعفاته، القصيرة أو طويلة الأمد، والتي نشرتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها.
أسباب محتملة
هناك العديد من التفسيرات المحتملة لسبب ارتباط كوفيد 19 بمشاكل سمعية حادة. لكن الباحثين مثل ستيوارت يتبنون النظرية القائلة إن الفيروس يمكن أن يدمر خلايا الأذن الداخلية بشكل إصابة مباشرة، ويفقدها القدرة على القيام بوظيفتها، بصورة مشابهة لما يعرف عنه من إصابته لخلايا تجويف الأنف العلوي، وتسببه بفقدان حاسة الشم.وقد يكون السبب أبعد من الإصابة بفيروس كورونا الجديد. فمثلا، في كل عام، يعاني حوالي 90.000 شخص في الولايات المتحدة - أي 27 من 100.000 - من فقدان السمع المفاجئ الناتج من تلف الأذن الداخلية، ويُعتقد أن فيروسات مختلفة تسبب العديد من هذه الحالات. ويمكن أن تؤدي الإصابة بتلك الفيروسات أيضًا إلى مشاكل أخرى في السمع والتوازن.
لكن التحقيق في كيفية تسبب الفيروسات في حدوث هذه المشاكل كان تحديًا للعلماء، لأنهم سيحتاجون حينها لدراسة الأجزاء الحساسة من الأذن الداخلية، ولا يمكن للباحثين قطع الأذن الداخلية لشخص حي للتوصل للحقائق!
إذاً، ما الحل؟ وما الطريقة لمعرفة جواب سؤالنا؟
حفزت جائحة كوفيد 19 الباحثين على تطوير مناهج جديدة لمعالجة هذا السؤال الذي طال أمده.- في جامعة جونز هوبكنز، استخدم ستيوارت وزملاؤه الجثث، حيث قاموا بتشريح الأذنين باستخدام طرق جراحية من القرن التاسع عشر، وأخيرًا، باستخدام منشار ذي نصل ماسي.
- وفي الوقت نفسه، عالجت مجموعة منفصلة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومستشفى ماساتشوستس للعين والأذن هذا السؤال من خلال دراسة بقايا الأنسجة البشرية من العمليات الجراحية، وعن طريق زراعة أنسجة الأذن الداخلية من الخلايا الجذعية، وهو نوع فريد من الخلايا يمكنه التكاثر والتوليد. ونشر الفريق النتائج الأولية في دورية Nature Journal Communications Medicine في أكتوبر / تشرين الأول.
وقال عالم الفيروسات لي جيريك، أحد كبار المؤلفين، إن فيروسات مثل فيروس كورونا SARS-CoV-2، والهربس، والفيروس المضخم للخلايا الشائع "تحتوي جميعها على أشواك أو مجسات يبدو أنها تلامس الأذن، لكن لم يتمكن أحد من دراستها لأن الأذن الداخلية يتعذر الوصول إليها، لكن، الآن أصبح بإمكاننا النظر إلى هذه الأجزاء بطريقة لم نكن قادرين على القيام بها من قبل".
صعوبات البحث والدراسة
قد يكون من الصعب الحصول على الجثث لأنها تتطلب متبرعين. لكن بالنسبة لفريق ستيوارت، لم يكن الحصول على جثث المرضى الذين ماتوا بفيروس كورونا هو الجزء الأصعب، فقد كانت مستشفى جونز كوبكنز قادرة على توفير ثلاث جثث. بل كان التحدي الأكبر هو الالتزام بإرشادات مركز السيطرة على الأمراض، لأنه في وقت مبكر من الوباء، عندما بدأ البحث، لم يكن أحد يعرف بالضبط كم من الوقت يمكن لفيروس كورونا البقاء على قيد الحياة داخل الجثث وفي ظل ظروف مختلفة.
ولم يشجع مركز السيطرة على الأمراض (CDC) استخدام الأدوات الجراحية التي تعمل بالطاقة مثل الأدوات الثاقبة، والتي ستكون الخيار الأمثل للوصول إلى أذن الجثة، لأن هذه الأجهزة أثناء عملها لثقب العظام قد تطلق أيضًا جزيئات فيروسية في الهواء وتشكل خطرًا على أي شخص في الغرفة، لهذا، كان على ستيوارت الاعتماد على التقنيات الجراحية باستخدام أدوات يدوية لا يمكنها نشر الفيروسات بسرعة عالية.
وفي غرفة تشريح الجثة، ارتدى الباحثون أقنعة N95 وغيرها من المعدات الجراحية. وفي كل جثة، بدأوا بعمل شق خلف الأذن للوصول الى الفتحة المثلثة لعظم الخشاء، وهو العظمة البارزة التي تقع خلف الأذن، إذ يكون الجزء الداخلي لهذه العظمة مشابهاً، لحد ما لخلية نحل ذات الغرف المتعددة إلا أنها في هذه العظمة تحتوي على الهواء بدلا من العسل وتكون رقيقة جدًا جدًا جدًا.
وجد باحثو هوبكنز في النهاية التوقيع الجيني (آثار الحمض النووي) لفيروس كورونا في اثنتين من الجثث الثلاث، مما يؤكد أن الفيروس يمكن أن يشق طريقه إلى الأذن الوسطى وعظم الخشاء. نشر ستيوارت وزملاؤه هذه النتائج في رسالة بحثية في مجلة JAMA Otolaryngology-Head & Neck Surgery في يوليو 2020، وأوصوا بأن يرتدي مقدمو الرعاية الصحية واقياً للعين وأقنعة N95 أثناء قيامهم بالإجراءات على الأذن الوسطى.
من جهته، قال جميل مظفر، الجراح والباحث في جامعة كامبريدج، إنه لم يتفاجأ بوجود فيروس كورونا في الأذن الوسطى والخشاء لأن كلا الجزأين مرتبطان بالأنف والذي يعرف بتركز فيروس كورونا فيه.
وأضاف مظفر إن الدراسة تدعم "فكرة أن الفيروس موجود في الأذن الوسطى، ويمكنه الوصول بسهولة إلى الأذن الداخلية"، مما قد يتسبب في فقدان السمع المفاجئ. ومع ذلك، فإن هذه النتائج لم تجب على السؤال: هل يمكن لفيروس كورونا أن يصيب خلايا السمع ويضرها بشكل مباشر؟
الحاجة لأدوات أخرى
من المعروف أن فيروس كورونا يدخل الخلايا من خلال التفاعل مع مستقبل يسمى ACE-2، الموجود على سطح بعض الخلايا البشرية. وعمل باحثون في جامعة طوكيو على استكشاف وجود مستقبلات ACE-2 والبروتينات ذات الصلة في خلايا أذن الفأر، ليتضح بعدها أنها موجودة بالفعل.
وكان ستيوارت وفريقه في حيرة من أمرهم، للأسباب التالية:
- صعوبة إجراء الدراسة التي تمت على الفئران وتطبيقها على البشر، إذ يحتاج فريق البحث إلى تقطيع الأذن الداخلية إلى مقاطع عرضية رفيعة فردية لغرض فحصها تحت المجهر. إلا أن الحصول على مقاطع مناسبة يحتاج الى الانتظار لمدة عام كامل بعد أخذ الأجزاء المطلوبة من الجثة لكي تلين العظام بما يكفي لتكوين شرائح رقيقة. وهذا وقت طويل للانتظار في حالة حدوث جائحة.
- التكلفة المالية العالية التي يحتاجها الفريق لشراء معدات خاصة تستخدم لعمل شرائح من أجزاء جهاز السمع، تكون هذه الشرائح بمقاسات تناسب نوع الدراسة المراد عملها ويتمكن الفريق من خلالها من إلقاء نظرة على الخلايا السمعية عند الإنسان. إذ إن هذه المعدات لم تستخدم سابقا في الدراسات السابقة التي أجريت على البشر، ولهذا لم تتم الموافقة على تغطية النفقات المالية لهذه الأدوات من قبل المعهد الوطني للصحة العامة في بريطانيا (الذي مول الدراسة منذ بدئها)، مما دفع ستيوارت إلى الاتصال بإحدى العوائل التي تتبرع للمستشفيات بشكل مستمر، وأقنعها بتغطية هذه التكاليف.
يقول ستيوارت: "خطرت لي فكرة استخدام منشار الألماس المعدني من تجربتي السابقة في قطع الأحجار أثناء دراستي لعلم الجيوكيمياء. تم قطع العظم الصدغي، الذي يشكل جزء الجمجمة الذي يحتوي على الأذن الداخلية وأعضاء التوازن للوصول إلى أجهزة السمع والتوازن الحساسة، وتقطيعها إلى شرائح رقيقة لفحصها والبحث عن مستقبلات الخلايا التي يتفاعل معها فيروس كوفيد-19 لدخول الخلية".
وباستخدام هذه التقنية، نجح ستيوارت وزملاؤه في إنشاء العينات (الشرائح الرقيقة) التي يحتاجون إليها بعد حوالي أسبوعين من البدء بعملهم على 6 جثث لأشخاص لم يصابوا بفيروس كورونا مسبقاً. شعر ستيوارت عندها بارتياح كبير، خاصة لأن فريقه تغلب على عقبة رئيسية في البحث عن المستقبلات التي يمكن للفيروس المسبب لـ كوفيد 19 مهاجمتها.
بينت النتائج الأولية وجود هذه المستقبلات في خلايا الأذن الوسطى والقوقعة ونظام التوازن، مما يشير إلى أن الباحثين كانوا على المسار الصحيح. ويعني أن فيروس كورونا الجديد يمكن أن يتسبب في تلف السمع من خلال غزوه لخلايا جهاز السمع مباشرة. وقال ستيوارت: "كان ذلك جزءًا كبيرًا من اللغز". قدم ستيوارت النتائج في اجتماع الجمعية الأميركية لطب الأعصاب في سبتمبر 2021، ويقوم فريقه بإعداد مخطوطة لتقديمها إلى مجلة طبية معتمدة.
بعيداً عن هذه الدراسة، وفي وقت سبق ظهور جائحة كوفيد 19
قام فريق في منطقة بوسطن بقيادة الجراح كونستانتينا ستانكوفيتش، الذي يعمل حاليًا في جامعة ستانفورد، باستخدام الخلايا الجذعية في المختبر لإنتاج نسيج مشابه للأذن الداخلية في العديد من الصفات. وبعد ظهور جائحة فايروس كوفيد-19، بدأ الفريق، بالتعاون مع الباحثين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في استخدام هذه الخلايا لفهم قابلية التعرض للفيروسات، بشكل أفضل.
قال جيرك، عالم الفيروسات، الذي تعاون مع ستانكوفيتش، إن التركيب النسيجي الذي تم إنتاجه، يظهر تحت المجهر مشابهاً لما بداخل أذن الإنسان. فلقد احتوى النسيج المنتج على المستقبلات الحسية التي تكتشف الحركة، ومكنت الأهداب الموجودة في النسيج فريق البحث من السمع بواسطتها. ودرس هؤلاء العلماء أيضًا أنسجة الأذن الداخلية للإنسان من مريضين على قيد الحياة تمكنوا من الحصول على أنسجة من آذانهم الداخلية أثناء إجراء عملية جراحية نادرة تخفف من الدوار المنهك، إلا أنها في الوقت ذاته تقلل من كفاءة السمع لديهم.
وتبين لفريق البحث أن كلاًّ من خلايا النسيج الثلاثي الذي تم إنتاجه من قبل الفريق وخلايا الأنسجة التي تم الحصول عليها من مريضين أحياء أثناء الجراحة، احتوت على نفس البروتينات التي وجدها ستيوارت في بحثه الذي استخدم فيه عينات من الجثث البشرية. ثم ذهب جيرك وزملاؤه إلى أبعد من ذلك: إذ قاموا بتعريض أنسجة المريض والنسيج المختبري الذي تم إنتاجه من قبل الفريق، لفيروس كورونا SARS-CoV-2 وتبينت لاحقاً إصابة عدد من خلايا النسيجين بالفيروس.
كتب ستيوارت بعد هذه النتائج: "عملهم مهم للغاية"، مشيرا إلى عمل فريق الباحثين من بوسطن. وصف جيرك النتائج الأولية التي توصل إليها ستيوارت بأنها أخبار رائعة. وأضاف: "إن أي بيانات مكملة هي مفيدة للغاية".
ويخطط فريق ستيوارت، مستقبلاً للبحث عن دليل على وجود الغزو المباشر من قبل فيروس كوفيد-19 لخلايا أعضاء جهاز السمع والتوازن، وذلك باستخدام عينات من الجثث الإيجابية لـ Covid-19 (جثث أشخاص أصيبوا سابقاً بالفيروس. وبهذه الطريقة، سيكون بوسع الفريق البحث عن التفاعلات المحتملة بين الأنسجة البشرية والفيروس الذي أصابها بشكل طبيعي (دون تعريض هذه الأنسجة للفيروس بصورة متعمدة كما في الأبحاث السابقة).
في غضون ذلك، يرغب فريق ستانكوفيتش وجيرك في اختبار العلاجات التجريبية على الأنسجة التي تم إنتاجها مختبرياً من قبلهم بواسطة الخلايا الجذعية، إضافة إلى تجربة فيروسات أخرى في تجاربهم على هذه الانسجة. ويرغب العلماء في تطوير دراستهم لاستكشاف الأسباب المحتملة الأخرى لفقدان السمع جراء الإصابة بالفيروسات عدا إصابة الخلايا مباشرة، ومثال تلك الأسباب: الالتهاب والاستجابات المناعية.
ويرجو ستيوارت أن تؤدي نتائج أبحاثه التي يجريها حالياً إلى إنتاج علاجات أفضل ورعاية داعمة للأشخاص الذين يعانون من ضعف السمع والتوازن. ويدعم هذه الرغبة وجود الدافع الشخص لديه من تجربته السابقة، مع ما عاناه والده من فقدان للسمع بعد سنوات من استخدام الديناميت وتفجيره أثناء عمله كجيولوجي ميداني.
وأضاف أن صعوبة التواصل مع العالم الخارجي نتيجة لفقد السمع قد تدفع المريض إلى الانطواء على نفسه. وأنهى حديثه، بأن فهماً أكبر لكيفية تفاعل الفيروسات مع الأذن، سيمكن الأطباء من المساعدة في تجنب التأثيرات السلبية على السمع نتيجة الإصابة بفيروس كوفيد الحالي، أو مضاعفاته التي تعقب الإصابة به.