يعمل القلب على ضخ الدم في الجسم، ويؤمن الطاقة الحركية (الميكانيكية) اللازمة لدفع الدم في دورة دموية ضرورية لحياة كل خلية من خلايا الجسم. إذ يحمل الدمُ الغذاءَ والأوكسجين الضروري للحياة، كما يَنقلُ مِن كل خلية مِن خلايا الجسم ما يَنتج عن نشاطها الحيوي مِن مواد مفيدة للجسم، ومواد تنتج عن التفاعلات الكيميائية الحيوية فيها.
فينقل النواتج المفيدة مع الدم إلى حيث يستفاد منها، كما ينقل النواتج الضارة لكي تُطرح خارج الجسم في الكليتين مع البول (البولة والأملاح)، وفي الرئتين مع هواء الزفير (غاز الكربون أو ثاني أكسيد الكربون)، وفي الكبد والأمعاء (الصفراء والمفرزات)، وفي الجلد مع العرق (البولة والأملاح).
لذا، فإن حركة الدم المستمرة في دورته، وضمان وصوله إلى كافة خلايا الجسم هي أمر ضروري للحياة، ويؤدي توقفها إلى الموت. فإذا توقف القلب عن ضخ الدم، تتوقف الدورة الدموية، وتُحرَم خلايا الجسم من الغذاء والأوكسجين، وتَختنق بتراكم نواتج التفاعلات الحيوية التي تَحدث فيها.
عَمَلُ القلب ووقوده
يمكن تشبيه خلايا الجسم بنباتات زرعٍ في حقل، ويمكن تشبيه الدورة الدموية بنظام سقاية الماء الضروري لحياة نباتات الزرع ونموها. فإذا حرمنا الزرع من الماء، اصفَّرَ وذَوَى، وكذلك إذا لم تصل الكمية الكافية من الدم إلى خلايا الجسم لكي تقوم بنشاطاتها الحيوية، تتعطل الحياة الطبيعية ويحدث المرض ويتوقف النمو، وإذا لم تتحسن التروية فسينتهي الأمر بالموت.
من الناحية الفيزيائية في مثالنا هذا، يمكن تشبيه الدم بالماء الضروري لحياة الزرع، وتشبيه العروق بقنوات الري، وتشبيه القلب بالمضخة التي تدفع الماء في قنوات الري. يحتاج تحريك الدم في العروق إلى طاقة تدفعه وتحركه، وتأتي هذه الطاقة الحركية في الدورة الدموية من انقباض عضلة القلب وانبساطها. ولكي يستطيع القلب تقديم هذه الطاقة الحركية، فهو يحتاج بنفسه إلى وقود، مثلما تحتاج مضخة الماء إلى الوقود اللازم لتشغيلها. فما هو الوقود الذي يحرقه القلب؟
القلب عضلة عجيبة في قوتها وانتظام عملها وقدرتها على تحمل العمل المستمر دون كلل أو ملل. إذ ينبض القلب في المتوسط حوالي سبعين مرة في الدقيقة، يضخ خلالها حوالي خمسة ليترات من الدم، أي 300 ليتر كل ساعة، 7200 ليتر كل يوم، 50,400 ليتر كل أسبوع، 2,620,800 كل سنة، 183,456,000 ليتر خلال سبعين سنة من الحياة ..! ويقوم بكل هذا العمل دون توقف أو راحة. أما وقوده فيأتي إليه أيضاً مع الدم الذي يضخه !
في عضلة القلب، يتم "إحراق" جزيئات السكر والحموض الدهنية التي تصلها مع الدم، باستخدام الأوكسجين الذي يصلها مع الدم أيضاً. ويتم "الإحراق" بطريقة حيوية بطيئة تؤدي إلى توليد الطاقة دون حدوث "حريق" في القلب. عندما تحرق المحركات والمضخات الميكانيكية وقودها، تفعل ذلك بطريقة فيزيائية مباشرة ويتولد عن ذلك انفجارٌ يتم التحكم به داخل المحرك بحيث تتولد الحركة المفيدة اللازمة، ويتم التخلص من الحرارة العالية الناتجة عن الاحتراق بتبريد المحرك بواسطة دورة من الماء أو الهواء لتبريده بشكل مستمر. أما في القلب، فإن الاحتراق البطيء المنضبط لا يولد حرارة احتراق عالية، ويتم "تبريد" القلب عن طريق الدورة الدموية أيضاً.
وهكذا من الناحية الفيزيائية، يمكن اعتبار المضخات والمحركات الميكانيكية بأنها أجهزة يتم فيها تحويل الطاقة الكيميائية الكامنة الموجودة في جزيئات الوقود (البترول والبنزين...) إلى طاقة حركية ميكانيكية تؤدي عملاً معيناً مطلوباً، مثل ضخ الماء أو تحريك سيارة. وبالمثل، يمكن اعتبار القلب مضخة حيوية يتم فيها تحويل الطاقة الكيميائية الكامنة في جزيئات السكر والحموض الدهنية إلى طاقة حركية تدفع الدم في الدورة الضرورية للحياة.
ومن أين يأتي السكر والحموض الدهنية إلى الدم؟ إنها تأتي إلى الجسم مع الغذاء. وكيف توجد في الغذاء؟ إنها تأتي أصلاً من النباتات، وهي الكائنات الحية التي تصنع السكر من الهواء والماء بوجود طاقة ضوء الشمس، وذلك بفضل تمتعها بوجود مادة الكلوروفيل (اليَخضور) Chlorophyll في عملية التمثيل الضوئي. فهذه المادة الخضراء اللون الموجودة في النباتات هي التي تخزن طاقة الشمس في جزيئات السكر والنشويات التي تصنعها النباتات الخضراء.
تأكل الحيوانات هذه النباتات بما فيها من طاقة شمسية مختزنة في جزئيات السكر والنشويات، وتصنع منها مواد جديدة، وتستمر الحياة. وعندما يتناول الإنسان الأطعمة النباتية والحيوانية، يحصل مع الغذاء على هذه الطاقة الشمسية المخزنة في جزئيات مواد الغذاء المختلفة. يحرر القلب هذه الطاقة الشمسية الكامنة في الغذاء، ويحولها إلى طاقة حركية أثناء انقباضه وانبساطه، ويحرك الدورة الدموية. فالقلب إذاً هو مضخة حيوية تحول الطاقة الشمسية الكامنة في الغذاء إلى طاقة حركية ضرورية للحياة.
ماذا يحدث عندما يقصّر القلب في أداء عمله؟
يصاب القلب بالأمراض مثل بقية أعضاء الجسم المختلفة، فمثلاً تؤدي الحمى الرثوية Rheumatic fever أحياناً إلى خلل في عمل صمامات القلب، فتعيق مرور الدم إذا أصيبت الصمامات بالتضيق، أو تسمح للدم بالرجوع في اتجاه معاكس للدورة الدموية إذا أصيبت بالارتجاع (أو القصور)، وتُصاب الصمامات أحياناً بالتضيق والارتجاع معاً. كما يمكن أن تَمرض عضلة القلب نفسها، فتُصاب بالالتهابات الفيروسية، أو بالضعف الشديد بسبب أزمات قلبية متكررة. ويمكن أنْ تتضيق شرايين القلب أو تنسد بترسبات دهنية وكلسية، مما يؤدي إلى حرمان عضلة القلب من التروية الدموية فتحدث الأزمات القلبية.
عندما يصاب الإنسان بقصور القلب، تصبح الدورة الدموية عنده أقل كفاءة، مما يؤثر على كافة أنشطة الجسم الحيوية، فيشعر بالوهن والضعف العام وضيق التنفس والخفقان، وقد يصاب بتورم في رجليه بسبب تجمع السوائل فيهما، وإذا لم يتحسن بالعلاج، قد يتطور الأمر إلى تجمع السوائل في الرئتين والبطن، ويتأثر عمل الكبد والكليتين أيضاً. وفي مثل هذه الحالات المتقدمة لا يستطيع المريض القيام بحياته اليومية العادية بسهولة، ويضطر للعلاج في المستشفيات بشكل متكرر يجعل من الصعب عليه متابعة عمله وانتاجيته في المجتمع، كما يسبب مرضه الصعب الطويل كثيراً من القلق والتوتر والإنهاك النفسي لديه ولدى أسرته.
بحث الأطباء بحماس عن أدوية وأجهزة وعمليات جراحية للتوصل إلى تشخيص وعلاج أمراض القلب المختلفة، ونجحوا في ذلك إلى حد بعيد، بحيث تمكنوا من علاج كثير من أمراض القلب عند الأطفال والكبار. إلا أننا لم نتمكن من القضاء تماماً على نتائج وآثار تلك الأمراض على عمل القلب. نتيجة لذلك، يشهد العالَم هذه الأيام تزايداً مضطرداً في عدد المصابين بضعف القلب (أو قصوره)، ومن المتوقع أن يزداد عدد هؤلاء المرضى بشكل كبير في المستقبل القريب. اضطرت كثير من الجامعات والمستشفيات إلى إنشاء عيادات متخصصة في علاج ضعف القلب يعمل فيها أطباء مختصون بعلاج قصور القلب. فهل يمكن علاج ضعف القلب وقصوره؟
المصدر:
كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني