لم تكن قصة علاج بعض أمراض القلب الخَلقية قصة عادية عابرة، بل كانت ملحمة ساحرة ورحلة مدهشة كان أبطالها جيل مِنَ الرواد الذين تمتعوا بخيال خصب، وجرأة في مواجهة الصعاب، وإصرار على متابعة الطريق التي كانت تبدو مستحيلة أمام كثير مِنْ أقرانهم. يحتاج الأمر إلى الإيمان أحياناً، الإيمان العميق بإمكانية النجاح في علاج المرض، والثقة المطلقة بالقدرة على تحقيق ذلك، والثبات على بذل كل جهد مضن وعمل دؤوب في سبيل شفاء المريض.
هل يمكن إغلاق القناة الشريانية ؟
يصاب بعض الأطفال بحالة مَرَضية خَلْقِيّة نتيجة بقاء وصلة بين الشريان الأبهر والشريان الرئوي الأيسر تسمى القناة الشريانية المفتوحة. تَحدث هذه الحالة المَرَضية في حوالي ثمانية من كل ألف مولود حي، وبنسبة عالية جداً تبلغ نحو 60% من الأطفال الذين يولدون بشكل مبكر عن موعدهم (الأطفال الخُدَّج). تؤدي القناة الشريانية المفتوحة إلى زيادة تدفق الدم إلى الرئتين، مما يسبب صعوبة التنفس وقصور القلب ومن ثم الوفاة.
في بداية القرن العشرين لم يكن هنالك أي علاج ناجع لهذه الحالة، ولذلك كان النجاح في إغلاق القناة الشريانية إشارة مبكرة على بزوغ نجم مدينة بوسطن في أمريكا وظهورها كمركز عالمي رائد في علاج أمراض القلب. ففي فترة مبكرة مِنْ عام 1907 اقترح الدكتور جون مونرو John Munro في بوسطن إجراء عملية الإغلاق الجراحي لمرض القناة الشريانية السالكة، وبيّن إمكانية تحقيق ذلك في مختبر التشريح. ولكن أول تطبيق عملي لهذا الاقتراح تأخر أكثر مِنْ 30 سنة عندما حاول الدكتور جون ستريدر John Strieder في بوسطن أيضاً إجراء عملية ربط قناة شريانية مصابة بالتهاب جرثومي لدى إمرأة في الثانية والعشرين مِنَ العمر، ولكن للأسف توفيت المريضة في اليوم الرابع بعد العملية نتيجة إصابتها بتوسع حاد في المعدة.
يوم الميلاد
بعد أنْ عمل روبرت غروس Robert Gross (1905-1988) في مختبر حيوانات التجربة لمدة سنتَين، تمكن مِنْ إجراء أول عملية ناجحة لإغلاق القناة الشريانية، وكان ذلك في 26 أغسطس مِنْ سنة 1938، ويَعتبر كثير منَ المؤرخين أنّ ذلك اليوم هو يوم ميلاد جراحة القلب الحديثة.
بعد مثابرة وتخطيط طويل وعمل دؤوب استطاع غروس أنْ يُتقن هذه العملية ويطبقها بنجاح تام في مختبر حيوانات التجربة بجامعة هارفارد. ثم قام بإجراء العملية في مستشفى الأطفال في بوسطن لفتاة في السابعة مِنْ عمرها كانت تعاني مِنْ مرض القناة الشريانية المفتوحة. لم يكن غروس أكثر مِنْ رئيسٍ للأطباء المقيمين في قسم الجراحة عندما قام بهذه العملية التاريخية. ولأنه كان يَعرف معارضةَ رئيسه الدكتور ويليام لاد William Ladd لهذه العملية، فقد انتهز فرصة ذهاب رئيسه في إجازة لكي يجريها. ويقال أنّ الرئيس لاد عند عودته مِنَ الإجازة قام بطرد غروس مِنْ عمله بسبب ذلك! وبالرغم مِنْ ذلك الطرد الظالم فقد كان لهذه العملية الفضل الكبير في تثبيت غروس كأحد أهم رواد جراحة القلب. بعد قيامه بهذه العملية، أُجريَتْ آلاف مِنْ أمثالها في كافة أرجاء العالم.
روبرت غروس Robert Gross (1905-1988) قام بإجراء أول عملية ناجحة لإغلاق القناة الشريانية في 26 أغسطس سنة 1938 وأصبح رئيساً للجراحين في مستشفى بوسطن للأطفال حين كان عمره 33 سنة. كما كان مِنْ رواد العلاج الجراحي لمرض تضيق برزخ الأبهر في عام 1945 .
فتحت هذه العملية الباب واسعاً لإجراء مزيد من العمليات الجراحية لإصلاح أنواع كثيرة من العيوب الخلقية التي تصيب القلب عند الأطفال والكبار، وأصبحت هذه العمليات ناجحة جداً في معظم هذه الحالات في المراكز المختصة بجراحة القلب عند الأطفال في كافة أنحاء العالم.
المصدر:
كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله، للدكتور عامر شيخوني