يَعلَم جراح القلب بشكل أكيد أنّ ممارسة جراحة القلب دون معلومات واضحة وتشخيص دقيق هو بمثابة الإبحار في سفينة دون بوصلة، إذ يكون مِنَ الصعب عليه أنْ يعرف بدقة أينَ موقعه وإلى أية جهة يسير. تم تطوير قثطرة القلب (أو قسطرة القلب) إلى الجهاز الرائع الذي نعرفه هذه الأيام ونستفيد منه في تشخيص وعلاج كثير مِنْ أمراض القلب، عبر فترة امتدت أكثر مِنْ قرن قام خلالها العلماء الرواد بكثير مِنَ العمل الدؤوب والبحث العلمي المتراكم. تقدموا في أبحاثهم بصبر وإصرار في مواجهة عقبات ضخمة ومصاعب جمة ومعارضة قوية في بعض الأحيان. ولا شك بأن الحظ والمصادفات السعيدة ساعدتهم في بعض الأحيان أيضاً، وأنارت الطريق أمام هذه العقول الذكية المستعدة المتفتحة.
البداية في حيوانات التجربة
لم يستخدم اصطلاح " قثطرة القلب" علمياً حتى عام 1844 عندما أطلق عليه هذا الاسم العالِم الفرنسي الشهير كلود برنارد Claude Bernard (1813-1878). ففي ذلك العام أَدخل برنارد مقياس حرارة زئبقي عبر الشريان السُّباتي في رقبة حصان إلى البطين الأيسر في القلب لقياس درجة حرارة الدم فيه. كما قام بتطوير هذه الطريقة لقياس الضغط داخل أجواف القلب في عدد مِنْ حيوانات التجربة. وعلى الرغم من أنّ برنارد لم يكن أول عالم يقوم بقثطرة القلب إلا أن طرقه العلمية الرصينة الدقيقة في دراسة عمل القلب ووظائفه الحيوية عن طريق القثطرة أثبتت الأهمية الكبيرة لهذه الطريقة في دراسة القلب.
كلود برنارد Claude Bernard (1813-1878) عالم الفيزيولوجيا الفرنسي الشهير الذي تمكن مِنْ قياس الحرارة والضغط داخل أجواف القلب في حيوانات التجربة.
قدّم المهندس الألماني أدولف إيوجين فيك Adolph Eugen Fick (9182-1901) إضافة مهمة في تطوير قثطرة القلب عندما نَشر في بحث مختصر طريقةً رياضيةً لحساب تدفق الدم سنة 1870، ومازالت طريقته هذه الأساس الذي يُعتمد عليه في قياس تدفق الدم، وقياسات الضغط وعمل القلب، والمقاومة في الدورة الدموية حتى هذه الأيام.
العالم الألماني أدولف إيوجين فيك Adolph Eugen Fick (1828-1901) الذي كان أول من وصف طريقة لقياس تدفق الدم في 1870 .
الخطوات الأولى في قثطرة القلب عند الإنسان
ربما كان أول ما نُشر عن قثطرة القلب عند الإنسان هو ذلك البحث الذي قام به فريتز بلايشرودر Fritz Bleichroeder وزملاؤه: أونغر E. Unger ولوب W. Loeb في ألمانيا سنة 1912 عندما قاموا بتمرير قثاطر مختلفة إلى القلب عند الإنسان، ولكنهم للأسف لم يوثّقوا أبحاثهم في صور شعاعية مؤكدة. ويبدو أنّ أونغر قد مرر قثاطر مطاطية إلى القلب عبر أوردة الذراع لأربعة مِنْ زملائه، بمن فيهم البروفسور بلايشرودر نفسه، كما قاموا بتمرير قثطرة عبر الوريد الفخذي.
في سنة 1929 كان الطبيب الشاب فيرنر ثيودور أوتو فورسمان Werner Theodor Otto Forssman (1904-1979) يدرس الجراحة في ألمانيا. كان عمره آنذاك حوالي 25 سنة فقط، وبينما كان يقوم بدراسات تشريحية لاحظ مدى سهولة تمرير قثطرة بولية رفيعة مِنْ أي وريد مناسب في الذراع إلى الأذينة اليمنى في القلب. وبلغت به الجرأة أنْ قام ذات مساء بكشف أحد الأوردة السطحية في ذراعه اليسرى ومرّر قثطرة بولية رفيعة عبر ذلك الوريد إلى الأذينة اليمنى في قلبه بدلالة التصوير الشعاعي، وسجل تجربته هذه بأخذ صورة شعاعية لنفسه والقثطرة في قلبه، مما يجعل الطبيب الشاب فورسمان أول مَنْ قام بتوثيق وتسجيل قثطرة القلب الأيمن عند الإنسان. خلال السنتين التاليتين لتجربته تلك أَجرى فورسمان بعض التجارب في قثطرة القلب قام خلالها بقثطرة نفسه ست مرات. ومكافأة له على مغامراته تلك تم طرده مِنَ المستشفى! ولكنْ تم تقدير تجاربه الرائدة فيما بعد عندما مُنح جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1956، بالمشاركة مع الرائدين أندريه كورناند وديكينسون ريتشاردز.
كان الهدف الأساسي الأول الذي أراده فورسمان مِنْ تجاربه في قثطرة القلب هو التوصل إلى طريقة لتوصيل الأدوية إلى القلب مباشرة، اختتم فورسمان بحثه قائلاً: "تفتح هذه الطريقة مجالات جديدة للدراسات الفيزيولوجية ودراسة عمل القلب".
في محاضرة ألقاها فورسمان سنة 1951 تحدث عن المعارضة الشديدة التي واجهها عندما قام بتجاربه الرائدة تلك، وذَكر أنه عندما تقدم بطلب لمتابعة دراساته الفيزيولوجية باستخدام القثطرة القلبية كانت الإجابة أنّ: "هذه الطرق في البحث مكانها في السيرك، وليس في مستشفى محترم". أخرجَتْه أساليبه الرائدة في البحث العلمي خارج الخط العام في تلك الأيام، وبدتْ أفكاره مجنونة، وحرَمتْه مِنَ الحصول على وظيفة أو مكان ليتابع تخصصه، وانتهتْ به الأمور إلى الاختصاص في الجراحة البولية، وأنْ يمارس عمله الطبي في قرية نائية مِنْ قرى ألمانيا. عندما قررتْ لجنة نوبل منح جائزتها في الطب والفيزيولوجيا لرائدَي القثطرة القلبية أندريه كورناند وديكينسون ريتشاردز، طَلَبَ هذان العالِمان أنْ يشاركهما فورسمان في الجائزة تقديراً لأعماله الرائدة في قثطرة القلب، التي كانت أساساً اعتمدا عليه في القيام بأبحاثهما العلمية. ولكنْ أين فورسمان؟ احتاج الأمر إلى شهور مِنَ البحث والاستقصاء قبل أنْ يتمكنا أخيراً مِنْ معرفة مكانه في القرية الألمانية النائية، واستطاعا إقناعه بقبول جائزة نوبل.
طبيب الجراحة البولية فيرنر ثيودور أوتو فورسمان Werner Theodor Otto Forssman (1904-1974) رائد قثطرة القلب الذي نال جائزة نوبل في 1956 بالمشاركة مع كورناند وريتشاردز.
الصورة الشعاعية التي وصلت بصاحبها إلى جائزة نوبل! قام بتصوير هذه الصورة الشعاعية للصدر الدكتور فورسمان Forssmann سنة 1929 وأثبت فيها وجود القثطرة التي أدخلها عبر وريد في ذراعه اليسرى إلى الأذينة اليمنى في قلبه.
الرائد الأول
في الواقع، ربما يجب أنْ يُعدّ طبيب القلب التشيكي أوتو كلاين Otto Klein (1881-1968) أول مَنْ طبّق قثطرة القلب الأيمن في تشخيص أمراض القلب. ففي عام 1929 طبّق كلاين طريقة فورسمان في 11 قثطرة ناجحة للقلب الأيمن، ومرّر القثاطر إلى الأذينة اليمنى والبطين الأيمن، وقام بحساب تدفق الدم وفق المبادئ الرياضية التي وضعها العالِم الألماني فيك. قدّم كلاين نتائج دراساته هذه سنة 1929 في محاضرة ألقاها في براغ، وأيضاً خلال المؤتمر السنوي للجمعية الألمانية للطب الذي عقد سنة 1930. نَشر هذه الأبحاث سنة 1930 أيضاً، ولكنّ رؤساءه في جامعة تشارلز في براغ منعوهُ مِنَ الاستمرار في هذه الدراسات!
طبيب القلب التشيكي أوتو كلاين Otto Klein (1891-1868) أول من قام بقثطرة القلب في الإنسان 1929.
جائزة نوبل لقثطرة القلب .. أخيراً!
بعد حوالي عقد مِنَ الزمان، قام الطبيب الأمريكي الفرنسي الأصل أندريه فريديريك كورناند Andre Frederic Cournand (1895-1988) والأمريكي ديكينسون ودروف ريتشاردز Dickinson Woodruff Richards (1895-1973) بتطبيق طريقة وأفكار فورسمان في قثطرة القلب، واستخدما قثطرة القلب الأيمن في نيويورك بشكل روتيني لدراسة عمل القلب في الصحة والمرض. وفي عام 1956 حصل كورناند وريتشاردز وفورسمان على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب، تقديراً لجهودهم في تطوير قثطرة القلب. في حين لم يتم تقدير الأعمال الرائدة التي قام بها بلايشرودر وكلاين في قثطرة القلب إلا بعد ذلك بسنوات.
العالِم الأمريكي الفرنسي الأصل أندريه فريديريك كورناند Andre Frederic Cournand (1895-1988) نال جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا سنة 1956 تقديراً لأبحاثه في قثطرة القلب مع فورسمان وريتشاردز.
الباحث الأمريكي ديكينسون ودروف ريتشاردز Dickinson Woodruff Richards (1895-1973) الذي نال جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا سنة 1956 تقديراً لأبحاثه في قثطرة القلب بالمشاركة مع فورسمان وكورناند.
أصبحت قثطرة القلب الوسيلة الأساسية في تشخيص أمراض القلب، وفي علاج بعضها أيضاً هذه الأيام، مثل التوسيع بالبالون، ووضع الدعامات، وإغلاق بعض الفتحات الخلقية (الولادية)، وتصليح الصمامات المريضة.
المصدر:
كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني