يتألف الدم من سائل مائي غني بالبروتينات والسكريات والدهنيات، تَسبَح فيه أعداد كبيرة من الخلايا مثل: الخلايا الحمر التي تَنقل الأوكسجين، والخلايا البِيض التي تقوم بوظائف الدفاع والمَناعة، وأجزاء خلوية صغيرة تسمى الصُفَيحات الدموية التي تقوم بوظائف ضرورية لتخثر الدم.
وقد أدرك الأطباء منذ قديم الزمان أهمية الدم وضرورته للحياة. كما أدركوا أنّ له علاقة ما بالأمراض، وكان "فَصْدُ الدم"، أي سَحب كمية من الدم من جسم المريض، طريقة متَّبَعة في علاج كثير من الأمراض حتى بدايات القرن العشرين. كما حاول الأطباء تعويض الدم الذي يفقده المريض بسبب نزف الجروح الذي يصاب بها المريض في الحوادث والحروب، لأنهم أدركوا أنّ الدم سائل مهم ضروري للحياة.
إجراءات أولية فاشلة في نقل الدم عند الإنسان
ولذلك فلا غرابة أن نقرأ عن محاولات مبكرة قام بها أطباء لنقل الدم من بعض الحيوانات إلى الإنسان في القرن السابع عشر باءت جميعها بالفشل الذريع. كما حاولوا نقل الدم لبعض النسوة بعد إصابتهن بنزف شديد بعد الولادة، ولم تكن محاولاتهم تلك ناجحة أيضاً. وكذلك فشلت محاولاتهم لنقل الدم من إنسان إلى آخر في أغلب الأحيان، بل انتهت أغلبها إلى الوفاة.
في أواخر القرن السابع عشر أَصدَرت الجمعيات العلمية في فرنسا وإنكلترا قراراً بوقف جميع محاولات نقل الدم، وقرَّرَ البابا في الفاتيكان مثل ذلك. في بدايات القرن العشرين كان الشعور العام لدى الأطباء أنّ نقل الدم من إنسان إلى آخر هو أمر خطير جداً، وأنّ نقله من حيوان إلى إنسان يؤدي حتماً إلى الوفاة. ولمْ تكن لديهم فكرة واضحة عن سبب حدوث ذلك، وظنوا أنّ ذلك ربما يَحدث بسبب عدم سلامة الدم نتيجة وجود مرض أو أمراض سابقة. لمْ يتمكن الأطباء من نقل الدم بسلام رغم معرفتهم بأهميته للحياة حتى اكتَشَف لنا الحلَّ باحث نمساوي عظيم.
رائد عبقري
ولِد كارل لاندشتاينر في فيينا سنة 1868. كان أبوه صحفياً لامعاً، ولكنه توفي شاباً ولمّا يبلغ الصغير كارل من العمر سبع سنوات. تعلَّقَ الصبي اللامع بأمه وأحبها حباً عميقاً، فلمْ يتزوج إلا بعد أنْ توفيتْ عندما كان عمره تسع وأربعين سنة، واحتفظَ بصورتها معلَّقَة في غرفة نومه حتى وفاته. نشأ كارل انطوائياً، وتجنَّبَ الأصدقاء والنشاطات الاجتماعية، ولكنه كان طالباً متفوقاً. تخرَّجَ من كلية الطب في جامعة فيينا سنة 1891، ودَرَسَ الكيمياء بعدها في ألمانيا. عمل في مركز أبحاث طبية في جامعة فيينا في الفترة 1897-1908 التي كانت فترة غنية بالإنجازات العلمية اكتشف خلالها الزُمَر الدموية، والفيروس المُسَبِّب لمرض شلل الأطفال.
دراسة مشكلة نقل الدم
انطلَقَ الطبيب كارل لاندشتاينر Karl Landsteiner (1868-1943) في دراسته لمشكلة نقل الدم من فكرة بسيطة هي: ربما يمكننا اختبار سلامة نقل الدم من إنسان لآخر بمزج كمية صغيرة من دم كل منهما في المختبر قبل إجراء نقل الدم بالفعل. قام باختبار هذه الفكرة أولاً سنة 1901 بأخذ عَيِّنات من دم ست نساء حصل عليها بسهولة أثناء وجودهن في المستشفى بعد ولادة طبيعية.
قام لاندشتاينر بفَصْلِ خلايا الدم الحمراء عن سائل البلازما في هذه العَيِّنات، ثم مَزَجَ الخلايا (أو الكُرَيَّات) الحمر مع بلازما الدم بكافة الاحتمالات الممكنة، ووضَعَ النتائج في جدول. لاحَظَ لاندشتاينر أنّ مزج الكريات الحمر مع البلازما يؤدي في بعض الأحيان إلى تجمعها مع بعضها وانحلالها في بعض الأحيان، بينما لا يَحدث لها أي تغيُّر وتَظَل سليمة تماماً في أحيان أخرى. واعتَقَد أنّ دم بعض النساء ربما كان غير سليم تماماً، ولكنه فكَّر أيضاً أنّ الدم ربما كان سليماً بالفعل من أي مرض، وأنّ التفاعل ربما حَدَثَ في بعض الحالات ليس بسبب وجود مرض خفيٍّ في الدم، بل بسبب وجود نوع من عدم التوافق بينهما أصلاً.
تابَعَ تجاربه بإجراء اختبارات مماثلة بين عَيِّنات من الدم حَصَلَ عليها من ستة أفراد أصحاء يعملون في مختبره بمَنْ فيهم هو نفسه. وحَصَلَ على نتائج مشابهة، فاستنتَج أنّ سبب حدوث التفاعل في بعض الحالات ليس وجود مرض، وإنما وجود اختلاف بين "أنواع" الدم في البشر. بدراسة جداول نتائج تجاربه توصَّلَ لاندشتاينر إلى أنّ هذه النتائج يمكن تفسيرها بافتراض وجود ثلاثة "أنواع" أو زُمَر من الدم، أَطلَق عليها آنذاك أسماء الأحرف اللاتينية: A, B, C والتي أَصبَحتْ تُعرَف فيما بعد بِزُمَر الدم A, B, O. لمْ يُدرك لاندشتاينر أهمية اكتشافه آنذاك، ففي نهاية المقالة التي نَشَرها سنة 1901 باللغة الألمانية تحت عنوان: "تفاعل الدم في الأصحاء"، كَتَبَ قائلاً: "أرجو أنْ يكون في هذه الملاحظات بعض الفائدة".
تحديد زمرة الدم واختبار التوافق
مَهَّدَت التجاربُ التي قام بها لاندشتاينر الطريقَ أمام تطبيق نقل الدم بسلام. اكتَشَف أحد تلاميذ لاندشتاينر زمرة الدم الرابعة AB سنة 1902، وأصبَحتْ فحوص تحديد زُمرة الدم، واختبار التوافق معروفة في كثير من المختبرات الطبية حوالي سنة 1910. تمَّ أول نقل للدم بعد التحضير له حسب نتائج اختبارات زمرة الدم واختبار التوافق سنة 1907، وكان نقل الدم سبباً في إنقاذ كثير من المصابين في الحرب العالمية الأولى.
بنك الدم
أَسَس الصليب الأحمر البريطاني أول بَنك لِجمع وتخزين الدم في العالَم سنة 1921. تطورتْ خدمات نقل الدم وتحسنتْ طرق حفظه، واستطاعتْ خدمات بنك الدم البريطانية إسعاف أكثر من 700.000 مصاب في الحرب العالمية الثانية. أدرك الأطباء أثناء الحرب العالمية الثانية أهمية نقل الدم في علاج الجروح والكسور والحروق، واستطاعوا تطوير تقنيات جديدة للاستفادة القصوى من الدم الذي كانوا يَحصَلون عليه من المتبرعين.
واكتُشِفتْ طرق فَصْلِ الدم إلى مُكَوِّناته المختلفة، خاصة الكريات الحمر والبلازما والصفيحات، بحيث أمكن نقل بعض هذه المُكَوِّنات بحسب الحاجة الطبية الخاصة التي يَحتاجها كل مريض بدلاً مِنْ نقل كمية الدم التي يَتبرع بها شخص بكاملها إلى شخص آخر، وأصبح مِنَ الممكن أنْ تستخدم كل وحدَة مِنَ الدم في علاج أكثر من مريض واحد.
كان لهذه التقنيات فضل كبير في علاج الإصابات والحروق وفي تطوير العمليات الجراحية المعقدَّة، خاصة في مجال جراحة القلب وعمليات علاج أمراض السرطان. ولذا لمْ يكن مُستغرَباً أن يُمنَحَ كارل لاندشتاينر جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1930 تقديراً لأبحاثه العلمية المهمة. غادر لاندشتاينر فيينا بسبب الظروف الصعبة فيها بعد الحرب العالمية الأولى، وذهب إلى أمريكا سنة 1922، حيث عمل في مؤسسة روكفلر للأبحاث الطبية في نيويورك، وتوفي سنة 1943 إثر أصابته بأزمة قلبية مفاجئة بينما كان يعمل في مختبره.
العالِم النمساوي كارل لاندشتاينر Karl Landsteiner (1868-1943) مكتشِف الزُمَر الدموية. حاز على جائزة نوبل 1930
زُمَر الدم والوراثة
لمْ يعلم لاندشتاينر نتائج الأبحاث الوراثية التي قام بها الراهب ماندِل Gregor Mendel (1822-1884) في أواخر القرن التاسع عشر. ولمْ يربط الزمرة الدموية التي يَحمِلها الإنسان بالوراثة، فلمْ يتصوَّر أنّ زمرة الدم تنتقل بالوراثة من الوالدين إلى الأجيال المتتالية. ولكنه ما إن اطَّلَع على التطورات التي حدَثتْ في عِلم الوراثة في أوائل القرن العشرين، حتى أدرك أهمية فحص زمرة الدم في كشف العلاقة الأَبوية والأُسَرية لدى الأولاد المجهولين النَسَب.
كانت الزمرة الدموية أول ما اكتُشِف من سِمات "البصمة الوراثية" المميِّزة التي يحملها كل منا. نَعلم الآن أنّ زمرة الدم تُحدِّدها مُوَرِّثَة معينة تقوم بصنع جزئيات خاصة من البروتينات السكَّريّة على سطح الكُرَيَّات الحمر، وأنّ هذه المُوَرِّثات تأتي بشكل A أو B أو O، فإذا وَرِثَ أحدنا مثلاً المُوَرِّثَة A مِنْ أبيه، والمُوَرِّثَة B مِنْ أمه، حَمَلَ دمه الزمرة AB. وإذا ورِث A مِنْ كلا الأبوين حَمَل دمه الزمرة A. وفي المرحلة الجَنينية أثناء تَشكُّل الأجسام في رحم الأم، يَتعرف جهاز المَناعة على الخلايا الحمر في الدم فلا يؤذيها، بينما يَستمر وجود الأجسام المضادة لزمَر الدم الأخرى التي تَختلف عن زمرة الدم في الجسم. فإذا نُقِل دمٌ إلى جسمنا من زُمرَةٍ لا تتوافق مع مضادات الأجسام الموجودة فيه، فإن هذه الأجسام المضادة ستهاجم الكريات الحمر في الدم المَنقول وتُدمّرها وتُحَللها في تفاعل مَناعي قوي يؤدي أحياناً إلى الوفاة.
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني