تُصنَع البروتينات داخل كل خَليّة حيّة حسب الأوامر الوراثية الموجودة في نَواة الخليّة. تَتَحدَّد الأوامر الوراثية حسب التركيب المتسلسل الخاص في الحمض النووي DNA الذي تتألف منه المادة الوراثية في خلايا جسمنا. يوجّه التركيب المتسلسل الخاص للحمض النووي DNA في خلايا جسمنا صنع بروتينات الزمر الدموية التي تحدد زمرتنا الدموية الخاصة، كما توجّه مادتنا الوراثية صنع بروتينات الزمر المناعية الخاصة بكل واحد منا التي تحدد بصمتنا المناعية الخاصة.
ما هو دور بروتينات الزمرة المناعية في تحديد بصمتنا المناعية الخاصة؟
يتم صُنع وتفكيك البروتينات باستمرار داخل الخَليَّة. يَضُّم كل جزيء من جزيئات الزُمرَة المَنَاعية الأجزاءَ البروتينية الناتجة عن تفكّك البروتينات المختلفة، ويَضَعها في الفجوة الموجودة فيه، ويَعرضها على سطح الخلية كالأعلام أو المُسْتَقبِلات. تلعب جزيئات الزُمَر المَنَاعية HLA دور عَرض نماذج وأجزاء من البروتينات التي تَصنعها خليَّتها، وكأنها ساريات أعلام. تَمرُّ خلايا المَناعة خلال دَورتها مع الدم على خلايا الجسم، وتَستعرِض الأعلام أو المُسْتَقبِلات المَعروضة على سطح كل منها. وكما عرفنا من نظريات ييرنِه و بورنِت في المناعة، فإنّ كلّ خلية مَناعية في جسمنا تَحمِل عَلَمها أو مُسْتَقبِلها الوحيد الخاص بها، وأنّ خلايا المَناعة التي يمكن أنْ تَعمل ضد خلايا جسمنا ذاته يتم تدميرها في الغدة الصعترية أثناء حياتنا الجَنينية والمراحل المبكرة من طفولتنا.
ولذا لا يتبقى من خلايا المَناعة في جسمنا سوى تلك التي تحمل أعلاماً أو مستقبِلات مختلفة عما تحمله خلايا جسمنا، ولا تتفاعل مع خلايا الجسم الطبيعية (الذات)، ولكنها تستطيع التفاعل مع أي مادة أو جسم غريب عنه. وهكذا عندما تقابل خلايا المناعة خليّة غريبة أو جرثومة تَرفَع أعلاماً مختلفة عن الأعلام التي تَرفعُها خلايانا الذاتية الطبيعية، فإنّ الخليَّة المَنَاعية التي تَحمل العَلَم أو المُسْتَقبِل الذي يَتكامل مع أعلام الخليَّة الغريبة، ترتبط بها مثلما تتشابك أسنان القفل بمفتاحه، وتَنشط وتَتكاثر وتُنتِج مضادات الأجسام التي تلتصق بالخليّة الغريبة وتقتلها.
نموذج أوضح
ربما يكون فَهم هذه النظرية أسهل بدراسة نموذج أبسط هو ما يَحدث من تفاعل بين الزُمَر الدموية الأربع. فكما ذكرنا، تَحمل كريات الدم الحمراء على سطحها مواد بروتينية-سكرية تتميز بها. فالخلايا الحمر في زُمرَة الدم A مثلاً تَحمل على سطحها جزيئات هذه الزُمرَة كالأعلام أو المُسْتَقبِلات، ولا يوجد في دَم الإنسان الذي يحمل زمرة الدم A مضادات أجسام لها، لأن الخلايا المَنَاعية التي تُنتِج مضادات أجسام ضد الزمرة A تكون قد أُزيلتْ من الدم خلال الحياة الجَنينية.
ولكنّ دَم الإنسان الذي يَحمل هذه الزُمرَة الدموية يحتوي على مضادات أجسام تتفاعل ضد الزمرة B. وإذا أُعطي هذا الإنسان دَماً ترفع الكريات الحمر فيه أعلام الزمرة B، فإن مضادات الأجسام الموجودة في دَمه ضد هذه الزُمرَة ستهاجِم هذه الخلايا الغريبة وتحللها وتقضي عليها. وبالمثل، فإن الإنسان الذي تَحمل خلايا دَمه الحمراء الزُمرَة B لا يحمل في دَمه مضادات أجسام ضد هذه الزُمرَة، بل يحمل مضادات أجسام للزُمرَة A، وتهاجِم هذه المضادات كريات الدم الحمراء ذات الزمرة A إذا نُقِلَتْ إليه.
أما الإنسان الذي لا تَحمل الخلايا الحمر في دَمه أياً من الزُمرَتين A ولا B، أي تكون زُمرَة دَمه O فيكون في دَمه مضادات أجسام لِكلتا الزمرتَين. ولذا لا يمكن أنْ يتقبَّل جسمه نقل الدم من أي زمرة إلا الزمرة O نفسها. والإنسان الذي تَحمل الخلايا الحمر في دَمه كلتا الزمرتَين A وB، أي تكون زُمرَة دَمه AB فلا يكون في دَمه مضادات أجسام لأيّ من الزمرتَين. ولذا يمكن أنْ يتقبَّل جسمه نقل الدم من أي زمرة أخرى.
لأنّ تنوع الزُمَر الدموية قليل، فإننا نستطيع الحصول على توافق مناسب في نقل الدم بسهولة نسبياً. وربما كان هذا هو سبب اكتشافها بشكل مبكر. كما ساعد على ذلك قوة التفاعل المَنَاعي الذي يحدثه اختلافها. ولكن تَكمُن المشكلة في الزُمَر المَنَاعية في تنوعها الكبير الذي يصل إلى عدة آلاف من الزُمَر المختلفة، كما أن تعقيد انتقالها الوراثي، والتغيرات الكثيرة التي توجَد فيها، تَجعل التماثل التام في الزُمَر المَنَاعية بين فردَين من البشر يكاد يكون مستحيلاً، إلا بين التوائم الحقيقية التي تحمل البنية الوراثية والبصمة المناعية المتماثلة تماماً.
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني