في سنة 1997، طَلع علينا العالِم الأمريكي جارِد دياموند Jared Diamond (1937) بكتابٍ حاز على جوائز عديدة. كان عنوان الكتاب: "الأسلحة والجراثيم والفولاذ"، وقد حاولَ دياموند في ذلك الكتاب الإجابة على سؤال طَرَحه عليه أحد السياسيين في غينيا الجديدة قائلاً ما معناه: " لماذا تَفَوَّق علينا البِيض، ولمْ يحدث العكس؟". فكر دايموند كثيراً في ذلك السؤال، وحاوَلَ أن يتوصل إلى إجابة لا تعتمد على فَرَضٍ غير مؤكَّد، مثل تفوّق العِرق الأبيض في الذكاء أو في الإمكانيات الجسدية، فلَجَأ إلى استخدام معلوماته الواسعة في الجغرافيا والفيزيولوجيا وعِلم الأحياء والتاريخ والوراثة وعلوم البيئة.
أسباب التفوق الأوروبي والآسيوي
اقتَرَح دايموند أنّ تَفَوُّق الأوروبيين والآسيويين على الحضارات الأخرى في القوة العسكرية والتكنولوجيا إنما يَرجِع في الأصل إلى الاختلافات الجغرافية والبيئية التي عاشوا فيها، وأنّ الامتيازات الجغرافية والطبيعية التي وُجِدَتْ في آسيا وأوروبا أَدَّتْ إلى انتقالهم السريع مِنْ حياة الصيد إلى تأسيس الزراعة والمدن، وتَطَوُّر اللغة ونُظُم الإدارة وسَنِّ القوانين التي تُنَظِّم المجتمع.
وأدّى الاستقرار ووفرة الغذاء إلى تَطور التكنولوجيا والقوة العسكرية. كما أدّى تَدجين الحيوانات في تلك المناطق إلى تَوَفُّر اللحوم بالإضافة إلى تَوَفُّر النباتات الزراعية. وأدى ذلك أيضاً إلى تَعَرّضِهم للأمراض الجرثومية والفيروسية التي تَنقلها الحيوانات والحشرات.
وعندما استقرَّ الناس في تلك المناطق وتزايدت أعدادهم، حَدَثَتْ لديهم الأوبئة التي قَضَتْ على كثير منهم، مثل أوبئة الجُدَري والإنفلونزا والطاعون ... وعلى الرغم من أنّ هذه الأوبئة قد أَفنَتْ كثيراً من الناس، إلا أنها في الوقت نفسه مَنَحَت الباقين من الأحياء مَناعة ومقاوَمة ضد هذه الأمراض. وعندما دَخل الأوروبيون مناطق جديدة في استراليا وأفريقيا والأمريكيتين، قابَلوا السكان الأصليين الذين لمْ يَتَعرَّضوا لهذه الأمراض مِن قَبل، ولمْ تكن لديهم ضدَّها مَناعة أو مقاوَمة.
وهكذا قَضَت الأوبئة والأمراض الجديدة، خاصة الجُدَري والحصبة والانفلونزا والزُهري، على كثير من السكان الأصليين، وكان عدد الذين قَضَت عليهم هذه الأوبئة أكبر بكثير من عدد الذين قُتِلوا في المعارك العسكرية. ففي الأمريكيتَين مثلاً، يَقَدِّر الباحثون أنّ 95% مِنَ السكان الأصليين قد قَضوا نتيجة الأمراض التي جَلَبَها الأوروبيون.
لم يكتفِ دايموند بتفسير الحركات الإمبراطورية والاستعمارية في العصور الحديثة، بل طبق نظريته هذه أيضاً على كثير من الهجرات البشرية والاستيطان واستبدال الأقوام والأمم التي حَدَثَتْ على مرِّ 60،000 سنة في كافة أرجاء العالِم. وهكذا يلخِّص عنوان الكتاب الوسائل التي استطاعَت المجتمعات الزراعية بواسطتها أنْ تتغلب على سكان المناطق الأخرى وتسيطر عليها، على الرغم من التفوق العددي الكبير في بعض الأحيان، وذلك بفضل الأسلحة، والجراثيم، وتقنيات النقل والحركة التي تَمَثَّلَت بالسفن والقِطارات (الفولاذ) التي تَمَكَّن الغزاة بواسطتها من الانتقال والانتشار والتوسّع في سيطرتهم ونفوذهم.
ولماذا لم يحدث العكس؟
وقد يُطرح السؤال: ولماذا لم يَحدث العكس؟ لماذا لمْ تَقتل أمراضُ السكان الأصليين الغزاةَ القادمين من المناطق الأخرى؟ ويُجيب دايموند أنّ ارتفاع عدد السكان في آسيا وأوروبا بفضل انتشار الزراعة وتدجين الحيوانات فيهما بشكل مبكر وواسع، أدى إلى نشوء مَناعة لدى السكان في تلك المناطق ضد كثير من الجراثيم والفيروسات والأمراض.
بينما أَدَّت قلّة كثافة السكان في الأمريكيتَين مثلاً، وقلّة معايشتهم للحيوانات المدجنة إلى كونهم أقل تَعرضاً للجراثيم والأمراض المتنوعة التي تَعَرَّض لها الأوروبيون، فأصبحوا أقلّ مَناعة لها. ومع ذلك فقد حَدَثَ بالفعل في حالات استثنائية قليلة أنْ شَكَّلَت بعض الأمراض المَحلية حماية للسكان المَحليين، ومانعاً قوياً ضد الغزو الأجنبي، وذلك مثلما حَدَثَ في حالة الملاريا ومرض النوم في أفريقيا حيث شَكَّلَت الملاريا وذبابة تسي تسي حاجزاً قوياً أعاق تقدم الغزو الأوروبي لأفريقيا سنوات طويلة.
أدوار عديدة للمناعة
تلعب مُوَرِّثات التَوافق والزُمَر المَنَاعية أدواراً هاماً في حياتنا، ليس فقط لأهميتها في عمليات زرع الأعضاء، بل لأهميتها أيضاً في الدفاع ضد الجراثيم والفيروسات التي قد تغزو جسمنا، ولدَورها المهمّ في إزالة الخلايا المريضة في جسمنا التي قد تَحدُث فيها تغيُّرات غير طبيعية، مثل التكاثر العشوائي السريع في حالات السرطان.
قد تُحَدِّد زُمرنا المَنَاعية استعداد جسمنا للإصابة ببعض الأمراض، ونجاح استجابتنا لبعض الأدوية واللقاحات. وإذا اضطرب عَمَل خلايا المَناعة في جسمنا، قد يؤدي ذلك لإحداث أمراض المَناعة الذَّاتية. وعلى مستوى المجتمعات البشرية، بَيَّنَ لنا دايموند أنّ المَناعة العامة ضد الأمراض قد تَلعب أيضاً دوراً مهماً في نشوء وتطور ومصير المجتمعات البشرية. وقد أظهرتْ بعض الدراسات الحديثة أنّ مُوَرِّثات التَوافق والزُمَر المَنَاعية قد تَلعب دوراً في ميولنا وعواطفنا وانسجامنا النفسي مع الآخرين، خاصة من الجنس الآخر.
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني