في ثلاثينيات القَرن العشرين، أصبح واضحاً لعلماء الأحياء أنّ سر انتقال الصفات الوراثية يكمن في نواة الخلايا التناسلية، ويتعلق بالصبغيات. ولكن ممّ تتألف الصبغيات؟ وما هو السر الكامن في تركيبها؟ وكيف تَنقل الصفات الوراثية؟ الطريق الوحيد الذي كان واضحاً لهم آنذاك هو فحص الصبغيات تحت تكبير المجهر، أملاً بزيادة الوضوح برَفع قوة التكبير. ولكنّ كل ذلك لمْ يُظهِر لهم سوى شبكةً معقدة ملتفة مِنَ الخيوط الملونة تتركز داخل نواة الخليّة. كان واضحاً أنهم يحتاجون إلى تكبير أقوى وأوضح مِنَ الرؤية بانعكاس الضوء مِنْ خلال عَدَسات المجهر الضوئي العادي.
الأشعة السينية النفاذة
جاء الجواب عبر الأشعة السينية ودراسة تركيب البلّورات التي تتشكل عادة في المواد غير العضوية، فبعد أن اكتشف فيلهلم كونراد رونتجن Wilhlem Conrad Roentgen (1845-1923) استخدام الأشعة السينية في التصوير الشعاعي سنة 1895، استخدَمها العلماء والفيزيائيون في دراسة المواد والاستفادة من طاقتها العالية في اختراق الأجسام. واكتَشَف الفيزيائي الألماني ماكس فون لاوي Max von Laue (1879-1960) طريقة استخدام تناثر أو انحراف الأشعة السينية في دراسة تركيب المواد، وحَصل لذلك على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1914. أول مادة عُرِفَ تركيب بلّوراتها بدراسة انحراف الأشعة السينية كانت ملح الطعام سنة 1914. ثم اكتُشف تركيب بلّورات الألماس في السنة ذاتها. وتتالى اكتشاف تركيب مواد أخرى مثل النحاس وفلور الكالسيوم وفلذّات الحديد والتيتانيوم والغرافيت (الفحم).
مبدأ تصوير انحراف الأشعة السينية على بلّورات المواد لكشف تركيبها ومعرفة ترتيب الذرّات في بُنيتها الجزيئية
باحثة رائدة
ولِدتْ رائدة أبحاث دراسة تركيب المواد العضوية دوروثي هودجكين Dorothy Hodgkin (1910-1994) في مدينة القاهرة، وتلقَّتْ تعليمها الأكاديمي بجامعة أوكسفورد في إنكلترا. استطاعتْ تطوير طريقة تصوير ثلاثي الأبعاد لانحراف الأشعة السينية في دراسة تركيب البروتينات والمواد العضوية.
وفي سنة 1937 نَشرتْ نتائج دراستها لتركيب الكوليسترول، ثم قَدَّمتْ دراستها الرائعة التي كَشفتْ تركيب البنسلين سنة 1946. واكتَشفتْ تركيب الفيتامين B12 سنة 1956، وحصلتْ على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1964 تقديراً لهذه الدراسات الرائدة المهمة. كانت ثالث امرأة تحصل على هذه الجائزة. ولمْ تتوقف جهودها العلمية، بل استمرتْ في البحث والدراسة حتى اكتشفتْ تركيب هرمون الإنسولين سنة 1969 بعد دراساتٍ مضنية استمرت أكثر من ثلاثين سنة، وأصبحتْ طريقة تصوير انحراف الأشعة السينية أهم أساليب البحث العلمي في دراسة تركيب المواد العضوية وفهم تفاعلاتها التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببُنيتها الكيميائية.
عندما كانت دورثي هودجكين في الرابعة والعشرين من عمرها أُصيبتْ بمرض التهاب المفاصل الرثوي. اشتد المرض تدريجياً وأدى إلى تشوه يديها، ثم أَصبحتْ مقعدة تستخدم كرسياً ذا عجلات في تنقلها، إلا أنّ ذلك لمْ يمنعها مِنَ الاستمرار في عطائها العلمي وتدريسها الجامعي. وفي الأربعينيات مِنَ القرن العشرين كانت مارغريت تاتشر Margaret Thatcher إحدى طالباتها، وعندما أَصبحت السيدة تاتشر رئيسةً للوزراء وَضَعتْ صورة دوروثي هودجكين في منزل الرئاسة.
توفيت دوروثي هودجكين في منزلها إثر إصابتها بسكتة دماغية. وكانت رائدة متميزة في تاريخ الكيمياء، فبالإضافة إلى كونها أول امرأة بريطانية تحصل على جائزة نوبل في الكيمياء، كانت دوروثي هودجكين ثاني امرأة في التاريخ تحصل على وسام الاستحقاق الملكي سنة 1965، بعد الممرضة الشهيرة فلورانس نايتينجل Florence Nightingale التي كانت قد حصلتْ على ذلك الوسام التقديري سنة 1907. كما نالتْ دوروثي هودجكين أيضاً جائزة لينين للسلام من الاتحاد السوفييتي سنة 1985.
دوروثي كروفوت هودجكين Dorothy Crowfoot Hodgkin (1910-1994) رائدة دراسة تركيب المواد العضوية، وبجانبها نماذج للمُركَّبات التي اكتَشفتْ تركيبها
تركيب المادة الوراثية
توصَّل العلماء إلى معرفة أنّ الصبغيات تحمل المادة الوراثية، وأنها تتألف مِنْ نوع خاص مِنَ الحموض النووية والبروتينات. واستطاع الفيزيائي وعالِم الأحياء الانكليزي ويليام توماس آستبوري William Thomas Astbury (1898-1961) أنْ يُصدِر أول صورة لتركيب جزيئات الحموض النووية في المادة الوراثية سنة 1937، وذلك باستخدام طريقة انحراف الأشعة السينية. وضَّحَتْ هذه الصور أنّ الحموض النووية ذات بناء جُزيئي منتظم، ولكنه لمْ يستطع التوصل إلى معرفة تركيبها وكيفية عملها في نقل الصفات الوراثية.
اهتمّ العالِم الأمريكي الشهير لاينوس كارل بولينغ Linus Carl Pauling (1901-1994) بدراسة الحموض النووية منذ سنة 1937. يَعتبِر كثير مِنْ دارسي تاريخ العلوم أنّ بولينغ هو أحد أهم العلماء في القرن العشرين، وذلك بفضل أفكاره الجديدة وإنجازاته التي توصَّل إليها في كثير من العلوم مثل الكيمياء العضوية والرياضيات والميكانيك الكمّي (المَوجي) Quantum Mechanics، كما يُعتبَر أحد مؤسسي عِلم الكيمياء الكميّة Quantum Chemistry والبيولوجيا الجزيئية Molecular Biology (العِلم الذي يدرس تركيب الجزيئات العضوية وطرق عملها ووظائفها في الخلايا والكائنات الحية).
دَرَسَ بولينغ الرياضيات والميكانيك الكمّي في جامعة ولاية أوريغون بأمريكا، ثم سافر إلى أوروبا مدة سنتين حيث تتلمذ على يد رواد فيزياء الكمّ مثل الألماني أرنولد سومرفيلد Arnold Sommerfeld في ميونيخ، وعالِم الفيزياء الدنماركي الشهير نيلز بور Niels Bohr في كوبنهاغن، والفيزيائي النمساوي إيروين شرودينغر Erwin Schrodinger في زوريخ.
واهتم بولينغ بدراسة كيفية تطبيق رياضيات الميكانيك الكمّي في فهم التركيب الالكتروني للذرّات والجزيئات. وفي سنة 1927 أصبح بولينغ أستاذاً مساعداً في الكيمياء النظرية في المؤسسة العلمية العريقة كالتِك Caltech (مركز كاليفورنيا للعلوم والأبحاث). خلال السنوات الخمس الأولى التي قضاها هناك، نَشر بولينغ حوالي خمسين بحثاً علمياً عن دراسة تركيب البلّورات بالأشعة السينية وإجراء الحسابات الكمّية عن الذرّات والجزئيات.
وتم ترفيعه إلى درجة الأستاذية سنة 1930. قام في تلك السنة برحلة ثانية إلى أوروبا تعلَّم خلالها على طريقة معرفة تركيب المواد بدراسة انحراف الالكترونات، وقام بتطوير أجهزة لدراسة انحراف الالكترونات واستخدَمها في اكتشاف الذرّات والجزئيات التي تتألف منها كثير من المواد الكيميائية.
وربما كانت أهمّ أبحاثه التي أدتْ إلى حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1954 هي دراساته المستفيضة لكيفية ترابط الذرّات في تكوين جزئيات المادة، والروابط الكيميائية التي تؤلفها. نَشر أعماله هذه سنة 1939 في كتابه الشهير: "طبيعة الرابطة الكيميائية" الذي يُعتَبر مِنْ أقوى الكتب تأثيراً في مجال الكيمياء، ومازال يُستخدَم مَرجِعاً في هذا المجال بعد مرور أكثر مِنْ سبعين سنة على نَشره. في سنة 1962 حصل بولينغ أيضاً على جائزة نوبل للسلام بسبب جهوده السياسية في المساواة وحقوق الإنسان، وبذلك أصبح الباحث الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل مرتين لوحده دون أنْ يشاركه فيها أحد، كما أصبح أحد أربعة فقط ممن حصلوا على جائزة نوبل أكثر من مرة، وثاني الحاصلين على هذه الجائزة في مجالين مختلفين، (الباحثة الأخرى التي حصلتْ على جائزة نوبل في مجالين مختلفين هي ماري كوري Marie Curie التي حصلتْ على جائزة نوبل في الفيزياء 1903 وفي الكيمياء 1911).
العالِم الأمريكي الشهير لاينوس كارل بولينغ Linus Carl Pauling (1901-1994) الذي حصل على جائزة نوبل مرتين، وقاد كثيراً من الأبحاث الرائدة في علوم الخليّة الحية والوراثة
مِن البروتينات إلى الحموض النووية
كان بولينغ أول مَن وَصَفَ تركيب جزيء الهيموغلوبين (خضاب الدم الذي ينقل الأوكسجين في الدم) واكتَشف أنّ شكله يتغير عندما تَنضَمُّ إليه أو تنفصل عنه ذرّة أوكسجين. أثار ذلك فضوله لمتابعة دراسة تركيب البروتينات. إلا أنّ تلك الدراسات لمْ تكن سهلة في ذلك الوقت لأن التركيب المعقد للبروتينات جعل تصوير انحراف الأشعة السينية عن جزيئاتها صعب التقدير. استطاع بولينغ كشف وجود التفاف لولبي مميَّز في بعض البروتينات.
وكان مِنَ أوائل الرواد الذين وضَّحوا العلاقة الوثيقة بين شكل البروتين والدور الذي يلعبه في التفاعلات الحيوية داخل الخليّة، وأَثبتَ ذلك في دراساته على عمل الإنزيمات (الخمائر)، والتفاعلات الخاصة بين الأجسام الغريبة التي تدخل الجسم، مثل الجراثيم، ومضادات الأجسام المَناعية النوعية التي تتفاعل معها.
وهكذا في أربعينيات القرن العشرين، أَصبحَ واضحاً لعلماء الأحياء والوراثة أنّ الصبغيات الموجودة في نواة الخليّة الحيّة تلعب دوراً هاماً في وظائفها الحيوية، خاصة فيما يتعلق بانقسام الخلايا وانتقال الصفات الوراثية. ولكنْ كيف تقوم الصبغيات بهذه الوظائف المهمة؟ كان مِنَ المعروف لديهم آنذاك أنّ الصبغيات تحتوي على بروتينات، وعلى سلاسل طويلة ملتفة مِنَ الحموض النووية، وأنّ هذه الحموض النووية ذات تركيب منتظم، يتألف مِنْ أربعة أو خمسة أنواع محدَّدة مِنَ المواد العضوية، بالإضافة إلى الفوسفور وسكر الرايبوز الخماسي. ولكنْ ما هو تركيب هذه الحموض النووية على وجه الدقة؟ وكيف يتعلق تركيبها الكيميائي بالتفاعلات الحيوية والوراثة التي تقوم بها؟
سباق نحو اكتشاف سر الحياة
دَخَل علماء الكيمياء العضوية والفيزياء والدارسين لعلوم الخليّة في سباق محموم للإجابة على هذه الأسئلة المهمة، فقد كانوا يشعرون أنّ الإجابة عليها ستفتح مجالات واسعة في فهم جانبٍ أساسي مِنْ أسرار الحياة، وهو التكاثر والوراثة. لأن هاتين الصفتين هما مِنَ الصفات الأساسية التي تُميِّز الكائنات الحية عن بقية الموجودات غير الحية. اشتد التنافس والسباق المحموم بين العلماء للتوصل إلى البنية الكيميائية للمادة الوراثية والحموض النووية، ولكن الحظ بالفوز في ذلك السباق كان من نصيب عالمَين في جامعة كامبريدج هما: فرانسيس كريك وجيمس واطسون.
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني