منذ أن اكتشف بيتر مدَوَّر أهمية خلايا المَناعة في رفض زرع الجلد الغريب ورفض الأعضاء المزروعة، طُرِح السؤال: كيف لا يرفض جسمُ الأمِّ الجَنينَ الذي تحمِله وهو جسم غريب عنها، ويختلف تركيبه الوراثي وبروتينات جسمه عن المادة الوراثية والبروتينات في جسم الأم؟ عرفنا من دراسة عِلم الوراثة أنّ الجَنين يحصل على نصف مادته الوراثية من أمه، ويحصل على النصف الآخر من أبيه. أي أنّ المادة الوراثية الموجودة في كل خلية من خلايا جسم الجَنين تختلف عن تلك التي توجَد في خلايا الأم، ولا بد مِنْ أنّ خلايا المَناعة في جسم الأم ستكتشف تلك الاختلافات فور حدوث أي تماس بينها وبين خلايا الجَنين، فكيف لا ترفضها وتؤذيها وتقتلها مثلما تفعل عندما ترفض زرع أي عضو آخر غريب عن الجسم؟
هل يمكن أن يرفض جسم الأم جنينها أحياناً؟
في الواقع، عرف العلماء أنّ رفضَ خلايا المَناعة في جسم الأم قبولَ الجَنين الذي تَحمِله يمكن أنْ يَحدُثَ بالفعل في بعض الحالات النادرة. ولعل أشهر تلك الحالات هي ما يمكن أنْ يَحدث للجنين في بعض حالات اختلاف زمرة الدم بينهما، خاصة عندما تكون زمرة دَم الجنين إيجابية وتكون زُمرَة دَمِ الأم سلبية، مما يؤدي إلى انحلال دم الجَنين وإصابته بفقر الدم والاصفرار وضخامة الكبد والطحال وتَجَمُّع السوائل في جسمه وإصابته بتَخلُّف عقلي، وأحياناً قد تؤدي هذه التفاعلات المَنَاعية إلى وفاة الجَنين قبل الولادة أو بعدها بقليل. عرف الأطباء سبب حدوث هذه الحالات منذ أربعينات القرن العشرين، واستطاعوا علاجها بتَحضير الأم للحمل باستخدام أمصال مَنَاعية مضادة. ولكننا نَعلم أنّ هذه الحالة المَرَضِيَّة قليلة الحدوث، وأنّ الغالبية العظمى من حالات الحَمل الطبيعي تتم بنجاح! وظلَّ السؤال قائماً منذ أن طَرَحه مدَوَّر في أوائل الخمسينات: لماذا لا تَرفض خلايا المَناعة عند الأم جسمَ الجَنين في الحَمل الطبيعي؟
ألا توجد خلايا مناعية في رحم الأم؟
افترضَ العلماء أن خلايا المَناعة لا تَدخل إلى الرَّحِم، وأنّ رَحِم الأم الحامل هو عضو مميَّز لا تَنشَط فيه خلايا المَناعة أثناء الحَمل، وأنّ المَشِيمَة التي تُغَذّي الجَنين أثناء الحَمل تَفصل تماماً بين خلايا الجَنين وخلايا الأم فلا يَحدث رفض ولا تفاعلات مَنَاعية ضد الجَنين. وبالفعل، اكتشفوا أنّ خلايا المَشِيمَة تتميَّز فعلاً بغياب وجود الزُمَر المَنَاعية الرئيسية على سطحها، ولكننا نَعرف أنّ جهاز المَناعة الطبيعي الموجود في أجسامنا يستطيع اكتشاف "غياب" الزُمَر المَنَاعية منذ أن اكتشف السويدي رولف كيسلينغ سنة 1975 الخلايا القاتِلة الطبيعية. وقد عَلَّمَتْنا أبحاثه أنّ الخلايا القاتِلة الطبيعية تستطيع التَّعرُّف على "غياب الزمر المناعية"، فتهاجِم الخلايا التي لا تحتوي على أية زُمَر مَنَاعية، أي الخلايا التي لا تَرفع "أعلام الذات" التي تميِّز كل فرد منا عن غيره من البشر. وازداد الأمر صعوبة في الفهم عندما اكتَشفتْ الباحثة آشلي موفيت Ashley Moffett في جامعة كامبريدج في أواخر الثمانينات وجودَ كثير من الخلايا الطبيعية القاتلة في بُنْيَة الرحِم، فكيف لا تؤذي هذه الخلايا مَشيمَة الجَنين؟ وكيف تَسمح باستمرار الحَمل ونجاحه؟
بعد دراسات عديدة قام بها كثير من العلماء على مدى عقدَين من الزمن، اكتَشفوا أنّ لهذه الخلايا دوراً في الرحِم يختلف تماماً عن دورها في بقية أنحاء الجسم، وأنها تُفرِز مواد ضرورية لنشوء أوعية دموية جديدة في المَشيمَة، لازمة للجنين، وضرورية لتَثبيته في رحِم الأم. كما اكتَشفوا أنّ "انسجام" و"تناغم" الزُمَر المَنَاعية بين الوالدَين والجَنين ضروري لنجاح الحَمل واستمراره، وأنّ غياب هذا "الانسجام" ربما يؤدي أحياناً إلى حدوث بعض أمراض الحَمل التي تصيب الأم، مثل بعض حالات ارتفاع ضغط الدم أثناء الحَمل، والإجهاضات المتكررة، وانخفاض وزن الجَنين ... وهكذا أَظهرت الأبحاث دوراً مختلفاً لخلايا المَناعة، واحتمال وجود دور لها أيضاً بنجاح الأزواج في الحَمل والإنجاب.
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني