علم نفس القبول الذاتي هو نموذج بسيط وجديد، لكنه قوي، يعيد تعريف المشكلات النفسية على أنها استجابة عاطفية وسلوكية للتكيف والوقاية من الشعور بالخجل والخزي والعار الذي يعترينا عندما نشعر بأننا أخطأنا أو فشلنا أو عندما نكتشف عيوبنا وضعفنا.
ويفترض علم نفس القبول الذاتي أن كل "الاضطرابات العقلية والنفسية" تقريبًا هي اضطرابات ناتجة عن صدمتنا حينما اكتشفنا أننا نخطئ ونفشل ونخاف ونجبن، وأننا غير كاملين ولنا ضعفنا وعيوبنا؛ هذا الاكتشاف مرعب وشعور الخجل والخزي والعار الذي يصاحبه يكون شديد الإيلام، حيث نتصور بعقولنا القاصرة أننا وحدنا من نعاني من هذه الأشياء، ونشعر بالرعب من أن يكتشف الآخرون حقيقتنا فيرفضوننا، ومن ثم نبدأ في تطوير ميكانيزمات دفاعية غير صحية لإخفاء ما بداحلنا من قصور ونقص وعيوب، ببساطة لأننا لا نتحمل ألم الخجل والخزي والعار الذي يعترينا عندما ينتقدنا الآخرون أو يرفضوننا أو حتى عندما تظهر لهم أوجه قصورنا وعيوبنا وأخطائنا.
علم نفس القبول الذاتي لا يعترف بالأساس البيولوجي والجيني للاضطرابات النفسية، ويرى أن أساس كل مشكلاتنا النفسية (بما في ذلك القلق والتوتر والخجل الاجتماعي ومرورا باضطرابات الشخصية والاضطرابات الوجدانية المختلفة) راجع لعدم قبولنا لأنفسنا بكل ما فيها من ضعف وقصور وعيوب، وبالتالي فهو يرفض اختزال الإنسان في تشخيصات ضيقة كما يفعل الدليل الإحصائي للتشخيصات النفسية (DSM)، وينطلق من ضيق التشخيصات المرضية بما يحمله ذلك من "حكم judgment" لبراح قبول كل نفس بشرية على أنها كل متكامل مميز في ذاته، ويرجع الفضل في تعلمي لهذا العلم لأستاذي الدكتور رفعت محفوظ، أستاذ الطب النفسي بجامعة المنيا، وتلميذيه الدكتور محمد طه والدكتور محمد أيمن، أستاذَي الطب النفسي بالجامعة نفسها. والدكتور رفعت محفوظ أسس مع فريقه المساعد مدرسة متميزة جدا من مدارس العلاج النفسي الجمعي، وهي مدرسة الخطوات الأربع للعلاج الجمعي (Four step model for group psychotherapy).
ويرى علم نفس القبول الذاتي أن البداية بالأم والأب أو من يقوم مقامهما؛ فالأمهات والآباء الذين يقبلون ذواتهم قبولا غير مشروط وبدون أحكام سلبية أو حتى إيجابية (أنا الأفضل أو أنا الأكثر تميزاً).. الآباء والأمهات الذين يقبلون وجودهم الإنساني بتكامله هم القادرون على أن يكونوا لأطفالهم نموذجا في قبول الذات، وعلى العكس فعدم قبول الأمهات والآباء لذواتهم ينعكس بالتبعية على أطفالهم، ما يؤدي لتنشئة أطفال غير قادرين على تحمل إحساس الخجل والخزي والعار لأنهم حسب توقعاتهم غير متاليين وغير كاملين وغير جيدين بالدرجة التي توافق توقعاتهم، وبالتالي فهم لا يحتملون النقد ولا يحتملون الرفض ويطورون أساليبهم المرضية للتعامل مع هذه المشاعر، والتي قد تكون في بعض الأحيان مرضية ومعوقة أكثر بكثير مما عند الوالدين.
وانطلاقا من هذه الأساسيات التي تُبنى عليها فلسفة علم نفس القبول الذاتي، فإنها تعتبر أن الدور الأساسي في صحة وسواء الأطفال يرجع للبيئة التي نشأ فيها الأطفال وديناميكات العلاقة مع مقدمي الرعاية الأساسيين، وكما يردد الدكتور رفعت محفوظ دائما: "عاوز أولادك يتغيروا اتغير انت الأول.. البداية من عندك"، وهذا بالنسبة للوقاية.
أما العلاج لمن يعانون بالفعل من مشكلات في قبول ذواتهم، فالحقيقة لا يوجد علاج دوائي، والعلاج الوحيد هو العلاج النفسي بأشكاله المختلفة (فردي - جماعي - سيكودراما - إلخ)، وكل هذه العلاجات هدفها مساعدة الإنسان على قبول ذاته قبولا غير مشروط، وأن يتوقف عن الحكم عليها، وأن يتحول من النظرة الناقدة لذاته أو لبعض أجزاء من ذاته لنظرة أكثر عطفا ورحمة وقبول. وقد يبدو الكلام سهلا وبسيطا، ولكن رحلة قبول الذات هي رحلة مستمرة؛ تبدأها مع معالج، وتكملها مع نفسك.
بعد أن تعرفنا على أساسيات علم نفس القبول الذاتي، تعالوا نتعرف على العوامل المؤذية التي تؤدي لخلق عدم تحمل غير صحي لمشاعر الخجل والخزي والعار واحتمالية الرفض عند الأطفال، لأن الأطفال إذا حملوا هذه المشاعر فإنها تستمر معهم حتى وهم مراهقون ما لم يحدث تدخل علاجي، وتستند هذه العوامل إلى الظروف الإنسانية الأساسية والمفاهيم النفسية المدروسة جيدا، وهذه العوامل هي:
1. الاستجابة الأولية للتهديد عبر الهجوم أو الهروب Fight-or-Flight.
2. الخوف من الإقصاء والعزلة الاجتماعية (عندما يكتشف الآخرون ما يعتري الطفل من عيوب وقصور).
3. الخجل والخزي والعار كمحاولة لمنع الإقصاء والعزلة الاجتماعية (أو كما يقول الشاعر بيدي لا بيد عمرو.. وبمعنى آخر يكون الشخص مرعوبا من أن يرفض اجتماعيا فيحمل إحساس الخجل والخزي والعار خوفا من الرفض، وكلما انعزل كلما زاد عنده هذا الإحساس ويصبح وكأنه يدور في دائرة مفرغة).
4. أي شكل من أشكال الصدمات النفسية والجسدية التي يستقبلها الطفل على أنها مهددة لحياته (Trauma).
5. حالة الالتصاق مع مقدم الرعاية الأول (الأم أو من يقوم مقامها).
تتعاون هذه العوامل الخمسة محدثة عاصفة تؤدي إلى تفاقم انخفاض قيمة الذات والشعور بالخزي الذاتي، ما يؤدي إلى استجابات غير صحية لشعور الخزي والعار.
ولو نظرنا حولنا وبدواخلنا سنستطيع بسهولة التعرف على تأثيرات هذه العوامل الخمسة، فكلنا نشعر بالخوف عندما نتعرض للتهديد الجسدي أو العاطفي، وكلنا نريد أن نشعر بأننا مقبولين وغير منبوذين؛ وهذا احتياج أساسي من احتياجاتنا كبشر، وبالنسبة لمعظمنا فإن أكبر التهديدات العاطفية هي النقد أو الاستبعاد أو التخلي أو الرفض أو الإذلال.
ويضاف إلى ذلك أن بعض الأطفال قد يتعرضون لصدمات شديدة في الطفولة، كالإهمال العاطفي أو البدني، وهؤلاء الذين تعرضوا لهذه لصدمات النفسية تكون أدمغتهم شديدة الحذر لأي تهديد جديد محتمل، ويكونون حساسين جدا للنقد وللرفض، وغالبا ما يحدث هذا بسبب فشل الوالدين في خلق ارتباط صحي، ويتضاعف الأمر إن كانت الصدمة مخزية (تحرش أو اغتصاب مثلا)؛ حيث يحمل الضحية نفسه مسؤولية الحدث، ويحدث التعلق غير الآمن بسبب الأبوة والأمومة غير الجيدة؛ ما يتسبب في أن يكون الشخص شديد الحساسية وبصورة مبالغ فيها لمشاعر الخجل والخزي والعار لعدم شعوره بقيمته الذاتية ولإحساسه الضعيف بالانتماء الاجتماعي.
العوامل الثلاثة الأولى هي ردود الفعل الطبيعية من قبل جميع البشر، ولكن العاملين الأخيرين يحدثان بشكل مباشر بسبب مشكلات في مقدمي الرعاية، وهذه العوامل تتسبب في اليقظة المفرطة والتفاعل المفرط للتهديد العاطفي، وتؤدي إلى تدني قيمة الذات، وعدم القدرة على تحمل الخزي والعار.
* سلوكيات غير صحية لإدارة الشعور بالعار
ذكرنا من قبل أن عدم قدرتنا على تحمل أحاسيس الخجل والخزي والعار بسبب ما يعترينا من عيوب يجعلنا نطور أساليب غير صحية لنحمي أنفسنا من الألم؛ ويحدد علم نفس القبول الذاتي ثلاث سلوكيات غير متوازنة وغير صحية تستخدم في محاولة لإدارة هذه المشاعر شديدة الإيلام؛ وهي:
- إلقاء اللوم على الآخر: "أنت على خطأ".
- اللوم الذاتي: "أنا على خطأ".
- تجنب اللوم: "لا يوجد أحد على خطأ".
* الاستجابة الصحية
تتطلب الاستجابة الصحية للعار من الشخص أن يكون قادرا على تحمل النقد بطرق مرنة، وأن يكون مسؤولاً عن أخطائه، وأن يتمكن من الاعتذار لإعادة بناء العلاقات، ولا يمكن أن يحدث هذا بدون القبول الجيد لذواتنا بما فيها من عيوب وإخفاقات متأصلة.
وعلى النقيض من ذلك، بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من عدم تحمل الخزي والعار، فإن الانتقادات البسيطة أو المفترضة قد تؤدي إلى استجابة خوف أولية، ما يؤدي لسلوكيات طرح اللوم، والتي تعتبر السبب الأساسي في جميع مشكلاتنا النفسية والسلوكية الحديثة، بما في ذلك مشاكل الغضب والعناد، وضعف التركيز وفرط النشاط لدى المصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، والقلق، والاكتئاب، واضطرابات الشخصية. ومعظم التشخيصات الأخرى الموجودة في الدليل التشخيصي والإحصائي، هي في الواقع وصف لشخص لديه يقظة شديدة بسبب شعوره بالخزي والعار، أو لكونه يشعر بأنه ضحية، أو مرفوض من قبل الآخرين، ما يؤدي لخجله ورفضه لنفسه.
وسنجد هذا الطفل يسلك سلوكيات معارضة ويتسم بالعناد، كمحاولة للهروب من ألم التصحيح أو العقاب، لأن تجربة العار ألمها لا يطاق، وقد يظهر الطفل أيضًا الكمالية، أو الإفراط في الامتثال والطاعة، أو الإفراط في الإنجاز، مع سلوكيات مثل اضطرابات الأكل والقلق العام أو النوعي، وهذه كلها مجرد محاولات "اللوم الذاتي" لمحاولة إصلاح ما يُنظر إليه على أنه معيب في ذاته.
* هدف الأبوة والأمومة الجيدة
هدف الأبوة والأمومة الجيدة هو تنمية قبول الطفل لذاته، وتنمية المسؤولية، والتعامل مع شعور الخزي والعار، ما يؤدي إلى المرونة العاطفية، وبدون هذه لن يكون الطفل قادرا على بناء علاقات صحية مع الآخرين أو مع نفسه.
وبعد فهم إطار علم نفس القبول الذاتي، يمكننا الآن أن نتطرق لعشر نصائح مهمة للآباء والأمهات.
المصادر:
Ten Parenting Tips to Improve a Child’s Emotional Wellbeing
The Four-Step Integrative Model for Group Psychotherapy: Description, Development and Application in Egyptian