اكتَشف العلماء وجود بلايين الجزيئات من البروتينات والمواد المختلفة داخل كل خلية من خلايا أجسامنا، وما زالوا يبحثون عن معرفة الدور أو الأدوار التي تَقوم بها هذه المواد في الخلية الحية. فلا شك بأن هذه المواد لمْ توجَد لكي تكون موضوع بحث أو نقاش بين العلماء، ولا بد من أنها تشارك في التفاعلات الحيوية التي تساعد كل خلية على القيام بوظائفها الحيوية المعقَّدة والمركَّبة والمتَنوعة في كل عضو من أعضاء الجسم.
وقد بدأنا نتعلم قليلاً عن دور الحموض النووية والبروتينات في كيفية انتقال الصفات الوراثية، وتوليد الطاقة في الخليّة، والحركة، والانقسام والتكاثر، والدفاع عن الجسم ضد الجراثيم والفيروسات، وتخليصه من الخلايا المريضة والخبيثة، وصنع التيارات الكهربائية التي تَسري في الأعصاب والدماغ وتُساهم في صُنع أفكارنا وأحلامنا وذكرياتنا في تناغم وانسجام عجيب بين كافة وظائف الجسم الحيوية.
أدوار أخرى لخلايا المناعة
كما تَعلَّمنا من دراسة خلايا المَناعة أنها تقوم بأدوار متنوعة ومتعددة، فهي تُدافِع عن الجسم ضد كل ما يَختلف عنه، ولعلها تَلعب دوراً ما في تعارفنا وانسجامنا واختلافنا مع بعضنا بعضاً، ولها دور في نجاح الحَمل والتكاثر والإنجاب، وتُساهِم في نشاطنا العصبي، وتُؤَلِّف ما يشبه البَصْمَة المَنَاعية الفريدة التي يَتميز بها كل فرد منا عن غيره، وربما تُؤَثِّر فيما يمكن أنْ يصيبه من أمراض وأورام، وما يمكن أن يكون لديه مِن قابلية لها أو حماية طبيعية ضدها، وربما ما يؤدي به إلى الوفاة. وفي الوقت نفسه، يساعِد التَّنَوع الغَزير في الزُمَر المَنَاعية التي توجَد عند البشر على حماية النَّوع البَشَرِّي من الانقراض إذا تَعَرَّضَ لوباء شامل.
ثورة في فهم أدوار المناعة في جسم الإنسان
انطَلَقتْ الثورة الحديثة في عِلم المَناعة منذ خمسينات القرن العشرين عندما قام بيتر مدَوَّر بأبحاثه الرائدة لفَهم كيفية رفض زراعة الجِلد وزرع الأعضاء. واكتَشف العلماء بعد ذلك خلايا المَناعة، وعرفوا تَركيب مُضَادَّات الأجسام والدَّور الذي تلعبه في حماية أجسامنا من غزو الجراثيم والفيروسات والمواد الغريبة التي قد تَدخل إليه. وعرفنا أنها تُخَلِّص جسمَنا أيضاً من الخلايا المريضة والخلايا السرطانية المُتَغَيِّرة.
كما أضافتْ ثورة عِلم الوراثة مزيداً من الاهتمام لاكتشاف مُوَرِّثات التَّوافُق والزُمَر المَنَاعية، وفوجئنا بتَّنَوعها الغَزير بين البَشَر، وتَّميُّزها الفريد الذي يَختَصُّ به كل فَرد منَّا. ولكي نقَدِّر مدى نُدرة احتمال أنْ يَحمل شخصان مجموعةً متماثلة مِنَ الزُمَر المَنَاعية، لنَتَصَوَّر ما وجَد الباحثون عند دراسة سجلات التبرع بالأعضاء في إنكلترا. تَحتَفظ لجنة تنظيم التبرع بالأعضاء في انكلترا بسجلِّ الزُمَر المَنَاعية الرئيسية لحوالي 18 مليون إنسان، وقد تَبيَّن أنّ أكثر مجموعات مُوَرِّثات التَّوافُق وجوداً لدى الأفراد في إنكلترا لا تَتَوفَّر إلا في واحد من كل مئتَي شخص تقريباً، وهناك بعض مجموعات الزُمَر المَنَاعية التي لا يزيد احتمال وجودها على أربعة في 18 مليون، ولنا أن نتصور مدى صعوبة حصول واحد من هؤلاء "النادرين" على متبرع مناسب لو حَدَثَ أنْ أصابَه مرض عضال واحتاج علاجه إلى عملية زرع كلية أو قلب أو كبد.
ويُقَدَّر أنّ حوالي 6% من الناس لا يَتَوفر لهم أي متبرع مُتَوافِق مناسب، وأنّ أكثر من مليون شخص في 18 مليوناً من المُسَجَّلين للتبرع الدولي يَحملون زُمَراً مَنَاعية فريدة. وهكذا يمكننا أن ننظر برؤية جديدة إلى معنى نتائج "دراسة القمصان التي تفوح منها رائحة العَرَق" التي توصَّلَتْ إلى أنّ النساء يُفَضِّلن الرجال الذين يَختلفون عنهن في الزُمَر المَنَاعية، فما مَعنى ذلك بالنظر إلى معرفتنا بالتَّنَوع الغَزير والاختلافات الواسعة الموجودة في الزُمَر المَنَاعية التي يحملها كل منا! فكلُّنا مُختَلِفون ومُتَباينون عن بعضنا بعضاً!
فوائد غير متوقعة لدراسة المناعة والوراثة
استَخدَم العلماء معارفهم في علوم الوراثة والمَناعة في دراسة الهجرات البشرية عبر تاريخ وجودنا على سطح هذا الكوكب، وتَمكنوا من تَتبع السلوك التزاوجي العام الذي حَدَثَ بين مجتمعاتنا عبر التاريخ في كافة أصقاع الأرض، ويمكنهم الآن بدراسة المادة الوراثية والزُمَر المَنَاعية أن يثبتوا علاقة الأبوة والأمومة، وأن يُحَدِّدوا الأصول العرقية والجغرافية لأجدادنا.
وتوصّلوا إلى استنتاج أنّ مُوَرِّثات التَّوافُق تُؤَثِّر على حياتنا منذ بداية الحَمل وتَشكُّل الجَنين والولادة، وأنها يمكن أنْ تُحَدِّد الأمراض والأورام التي قد يُصاب بها كل منا، وربما تلك التي قد تودي بحياتنا. ولا يَرتبط كل ذلك بالمادة الوراثية والمَناعة أو القابلية التي نولَد بها بشكل جَبري حَتمي، فهناك تأثيرات لا تقلّ عنها أهمية لظروف نشأتنا وطفولتنا، وتغذيتنا، وثقافتنا، والأمراض التي تَعَرَّضْنا لها، والعادات الجيدة أو السيئة التي مارسناها في حياتنا. ويبدو أنّ أحداً لا يستطيع إثبات أنّ مجموعة معيَّنة من مُوَرِّثات التَّوافُق والزُمَر المَنَاعية هي أفضل لنا أو أسوأ، إلا أنه من المؤكد أنّ وجود التَّنوع الغَزير والتَّبَاين الواسع في المادة الوراثية التي نَحملها تفيدنا جميعاً في حفظ بقائنا أحياء، وبقاء الإنسان على هذه الأرض، ولكن وجودنا هذا لا يمكن أنْ يستمر إلا إذا استَطَعنا التعاون والعمل معاً لتَجنُّب مخاطر الأوبئة والتلوث ومآسي الحروب والمجاعات والفساد الاجتماعي.
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني