قَطَعت كارلا شاتز Carla Shatz (1947) الطريق بين كلية العلوم وكلية الطب في جامعة هارفارد مسرعة وهي تفكر في المقابلة التي ستقوم بها مع عالِمين من كبار علماء الجامعة. كانت كارلا فتاة جادة اهتمَّتْ بدراسة العلوم منذ طفولتها، مما جعلها تعيش في نوع مِنَ العزلة عن أقرانها، فلمْ تشاركهم كثيراً من نشاطاتهم واهتماماتهم، فقد كانت من أولئك الطلبة الذين تَستغرقهم القراءة والدراسة.
كانت تَدرُس الكيمياء في تلك الجامعة العريقة، وقد أثار اهتمامها الاستماعُ إلى محاضرة فذة عن كيمياء الإبصار قَدَّمَها العالِم جورج والد George Wald (1906-1997) الذي حاز على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1967 تقديراً لاكتشافاته عن دور الفيتامين A والأصبغة في شَبَكِّية العين. وازداد حماسُها للبحث عن إجابة لسؤال طالما أَثَار فضولها: "كيف نُبْصِر؟".
كانت كارلا تحبُّ الفنون البصرية، بالإضافة إلى اهتمامها بالعلوم، وخلال دراستِها للكيمياء والفيزياء والرياضيات في الجامعة، دَرَسَتْ أيضاً فصولاً عديدة في فنون التصميم والديكور. وبينما كانت تَبحث عن موضوعٍ لأطروحة تَخَرُّجِها، نَصَحها أحد أساتذتها بمقابلة العالمَين هيوبل وفيزل والعمل في مختبرهما. وهكذا جَدَّت السَير نحو مختبرهما في كلية الطب، ويبدو أنها قد تَركتْ لديهما انطباعاً جيداً، فأيَّدا طلبَها الانضمام إلى فريقهما رغم معارضة الإدارة. لمْ تُدرك كارلا آنذاك أنها كانت أول امرأة تَدخل مجال البحث في عِلم بيولوجيا الإبصار والأعصاب في تلك الجامعة.
تابَعتْ كارلا دراستَها في جامعة هارفارد تحت إشراف هيوبل وفيزل، وحصَلتْ على شهادة الدكتوراه في بيولوجيا الأعصاب سنة 1976، وبفضل دعم أساتذتها وتشجيعهم، نَجَحتْ بأن تكون أول امرأة في تاريخ تلك الجامعة تَحصل على هذه الشهادة. انتَقلتْ في سنة 1978 إلى جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، حيث تابَعتْ أبحاثها في دراسة الأعصاب والدماغ، وكانت من أوائل النساء اللواتي يَخترقن احتكار الرجال لهذا المجال من البحث العلمي، وأول امرأة تَحصل على كرسي الأستاذية في العلوم الطبية الأساسية في جامعة ستانفورد. وفي الفترة بين 2000-2007، كانت كارلا شاتز أول امرأة تَشغل مركز رئاسة قسم بيولوجيا الأعصاب في جامعة هارفارد.
الباحثة الأمريكية الرائدة في علوم الأعصاب كارلا شاتز Carla Shatz (1947)
المَناعة وتَشَابُك الخلايا العصبية
لاحظتْ كارلا أثناء بحث مع فريقها سنة 1998 زيادةً في نشاط مُوَرِّثات التَّوافق والمَناعة في دماغ بعض حيوانات التجربة بتأثير نشاط الخلايا العصبية. لمْ تُوافِق هيئة تحرير المجلة العلمية المرموقة Nature على نَشر البحث، وعَلَّقَ بعض المحرِّرين فيها أنه لا بد من وجود خطأ ما في التجربة، لأنه مِنَ المُسَلَّم به أنّ عمل الخلايا العصبية لا يَتعلق بنشاط مُوَرِّثات التَّوافق والمَناعة!
مزيد من التجارب على الفئران
لمْ تُحبِطها تلك الملاحظات، بل زادتْ اهتمامها بضرورة القيام بمزيد من التجارب لتوضيح هذه العلاقة غير المتوقّعة بين الخلايا العصبية ومُوَرِّثات التَّوافق والمَناعة. قامتْ بإجراء تجارب جديدة درستْ فيها بُنيَة الأجزاء البصرية من دماغ الفئران التي لديها نقص معروف في مُوَرِّثات المَناعة. ولاحظتْ وجود تغيّرات بُنْيَوية فيها تَختلف عن تلك التي وَجدَتْها في الفئران الطبيعية على الرغم من عدم وجود مظاهر لأية اضطرابات عصبية واضحة في سلوكها وإبصارها. وتساءلتْ: هل توجَد هذه التغيّرات في مناطق أخرى من الدماغ غير المناطق التي تتعلَّق بالرؤية والإبصار؟
للإجابة على هذا السؤال، قامتْ بدراسة منطقة أخرى من دماغ الفئران تسمى الجسم الثَّفَني أو الحُصَين hippocampus، وهي منطقة لها علاقة بالذاكرة. وبالفعل، أظهرتْ تجاربها أنّ التواصل بين الخلايا الدماغية في مناطق الرؤية والذاكرة يمكن أنْ تتأثر ببعض بروتينات المَناعة. وعلى الرغم من ذلك فقد تردد كثير من العلماء في قبول نتائجها، لأنها تدل على احتمال وجود علاقة بين عمل الدماغ ومَناعة الجسم، وأنّ البروتينات التي تُنَظِّم صُنعها مُوَرِّثات المَناعة ربما يكون لها دور آخر في عمل الخلايا العصبية غير دور تنظيم الدفاع عن الجسم ضد الجراثيم والفيروسات والأجسام الغريبة. وعلى الرغم من وجود عشرات الدراسات التي تُظهر وجود علاقة بين وجود بعض الزُمَر المَنَاعية وبعض الأمراض النفسية، مثل مرض انفصام الشخصية Schizophrenia، إلا أنه لمْ يَثبت وجود علاقة سَببية بينها. وربما يَرجع ذلك إلى صعوبة تحديد الحالة النفسية بدقة، وعدم وجود ارتباط متواتر بين الزُمَر المَنَاعية وهذه الأمراض بشكل إحصائي مؤكد.
هل للمناعة دور في بعض الأمراض النفسية؟
وعلى كل حال، يُقَدِّر العلماء والأطباء أنّ الحالة العصبية والنفسية للمريض يمكن أنْ تتأثر بنشاط خلايا المَناعة في الحالات التي يكون فيها سبب المرض العصبي هو غزو جرثومي أو فيروسي، فتتأثر عند ذلك حالة المريض بنشاط المَناعة في جسمه، وذلك مثلما يَحدث في التهابات الدماغ الجرثومية أو الفيروسية. كما قد تُؤَثِّر حالة المَناعة بالحالة العصبية لدى المريض المصاب بخَلَلٍ في المَناعة، مثل بعض حالات اضطراب النوم Narcolepsy التي يمكن اعتبارها أحد أمراض المَناعة الذّاتيّة، التي يُهاجِم فيها جهاز المَناعة بعض الخلايا العصبية في الجسم نفسه، فيضطرب نظام صحوته ونومه. أما الاحتمال الجديد الثالث الذي افترضَته أبحاث كارلا فهو أنّ بعض بروتينات المَناعة قد يكون لها دور في ترتيب وتشابك وترابط الخلايا العصبية مع بعضها في الدماغ، ولمْ يكن هذا الاحتمال وارداً آنذاك في المعارف العلمية عن المَناعة!
شبكات الخلايا العصبية في الدماغ
يَعرف علماء الأعصاب وفيزيولوجيا الدماغ أنّ الأحداث الواقعية التي يعيشها الإنسان، وما يَتلقاه دماغه خلالها مِنْ صور وروائح وأصوات، وما يَلمسه أو يَتذوقه، وما يَمرُّ به من مشاعر، وأفكار وذكريات ... كل هذه الأمور تُؤَثِّر في الدماغ الذي يقوم بتَخزينها في ذاكرته بشكل كمية هائلة من المعلومات التي نَستعيدها أثناء حياتنا اليومية سواء في وعينا التام لذلك، أو في "عقلنا الباطن".
وإذا شَبَّهنا الدماغ بالكومبيوتر أو بالدَّارات الكهربائية، يمكن القول إنّ عمل الدماغ يُشْبِه في بعض جوانبه عَمَل شبكةٍ أو دارَةٍ كهربائية، إذ أنّ عمل الشَبَكَة أو الدَّارَة الكهربائية يَعتمد أساساً على طريقة تصميمها، وعلى التوصيلات الموجودة بين أجزائها وأجهزتها المختلفة التي تَمَّ تَصميمها وتَرتيبها لكي تؤدي عملاً أو وظيفة معيَّنة. إلا أنّ الدماغ يَتميَّز عن الدَّارات والشَّبكات الكهربائية التي يَصنعها المهندسون بأنه يستطيع بالخبرة والممارسة أنْ "يَتعلَّم" كيفية زيادة وتغيير بعض توصيلاته وشبكاته، فتَتَشكَّل فيه ارتباطات وشَبَكات جديدة لمْ تكن موجودة من قَبل.
يَعتقد العلماء أنه عندما تَتعرَّض خلايا الدماغ لمُنَبِّهات بَصرية أو سَمعية أو شَمِّيَة أو ذَوقية أو لَمسية، أو فِكرية ... فإنها تَنقُل وتُسَجِّل تلك التَنبيهات عن طريق زيادة وإضافة تَرابطات وتَشابكات جديدة مع بعضها بعضاً. وعندما تَتكرَّر تَنبيهات مُعيَّنة تُصبِح هذه التَشابكات والارتباطات أكثر ثباتاً ورسوخاً. ولعلَّنا عِشنا جميعاً ما يُثيره فينا ارتباط رائحة معيَّنة بحادثة أو شخص، وارتباط أغنية معيَّنة بذكريات خاصة، وما تُثيره مشاهدة منظر أو صورة معيَّنة من أفكار وذكريات ومشاعر ...
عندما نَتَقَدَّم في العمر، يبدو أنّ الخلايا العصبية في دماغنا تَفقد القدرة على صنع هذه التوصيلات والتشابكات الجديدة، فتَقِّل قدرتنا على تَذَكُّر الأحداث الجديدة التي نَمرُّ بها. بل ومع مرور الوقت، قد تبدأ التوصيلات والارتباطات والتشابكات التي كانت موجودة بين الخلايا العصبية في الدماغ بالتفكّك والانفصال، فتَخبو ذكرياتنا تدريجياً، ونفقد حتى تلك الذكريات البعيدة التي كانت "مُسَجَّلَة" فيها، ونبدأ بنسيان أسماء أشخاص وأصدقاء كنا نعرفهم، وأماكن كنّا نرتادها، وعلاقات حميمة كنا نَعتَّز بها، وقد نَفقد ما تعلمناه في الطفولة والشباب، ويَتراجع المرء إلى أرذل العُمُر فلا يَعلم من بَعدِ عِلمٍ شيئاً.
هل يمكن تكوين وصلات جديدة في الدماغ؟
درسَتْ كارلا شاتز ما يَحدث للتوصيلات والتَشابكات بين الخلايا العصبية في دماغ الفئران عند تَعليمها حركات جديدة وعلاقة التَّعليم بالزُمَر المَنَاعية، فوجَدتْ أنّ الفئران التي لديها نقص وراثي تامّ في صُنع الزُمَر المَنَاعية مِنَ الفئات HLA-A، والفئات HLA-B، تستطيع تَعَلُّم التوازن على قضبان دَوَّارَة لفترةٍ تبلغ ضعف الفترة التي تتوازن فيها الفئران الطبيعية. كما وَجدتْ أنّ الفئران التي لديها ذلك النقص الوراثي في الزُمَر المَنَاعية، تستطيع تَذَكُّر ما تَعَلَّمته مِنْ مَهارة التوازن بشكل أفضل حتى بعد مرور أربعة أشهر على تَعَلُّم التجربة. وبالطبع يظَلُّ الشكّ قائماً حول أهمية هذه الزُمَر المَنَاعية في دماغ الإنسان، وهل لها الأهمية نفسها التي أثبتتها التجارب في الفئران؟
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني