صحــــتك

اكتشاف الدورة الدموية.. القلب في الأدب

 8 نصائح لتحسين الدورة الدموية
دوران الدم في الأوعية الدموية

استُخدمتْ كلمة "القلب" في اللغة العربية المعاصرة كاصطلاح لتسمية ذلك العضو العضلي النابض الذي يوجد في الجهة اليسرى من تجويف الصدر، والذي وظيفته ضخ الدم إلى الجسم في دورة دموية ضرورية للحياة. وهذا المفهوم العلمي مبنيّ على عِلم التشريح وعِلم وظائف الأعضاء في الطب الحديث بعد القرن السابع عشر.

أما الأطباء القدامى فقد كانوا يعتقدون أن القلب هو منبع الروح وموطن العقل، كما قال أرسطو.  ورغم أن الطبيب العالم هيروفيليس، الذي عاش في الإسكندرية حوالي 250 سنة قبل الميلاد، قد ذَكر أنه يَعتقد أن الدماغ هو مركز العقل وليس القلب، كما قال أرسطو، إلا أن دراساته التشريحية هذه لم يكن لها تأثير هام مثل الذي كان لدراسات أرسطو وجالينوس. وعلى الرغم من أن ابن النفيس قد وصف الدورة الدموية في القلب والرئتين وأوضح تشريح القلب ووظيفته، إلا أن الاعتقاد المغلوط عن الارتباط التشريحي والوظيفي بين القلب والعقل ظَلَّ مستمراً.
وقد استَخدَم العرب كلمة العقل مجازا، لأن العرب وغيرهم من الأمم في العصور القديمة كانت تعتقد بأن القلب هو مركز العقل. والتَصَقت كلمة العقل كإحدى مرادفات كلمة القلب، بل وانعدم التمييز بين العقل والقلب في اللغة، حتى أننا عندما نبحث عن كلمة القلب في أكثر المعاجم القديمة فإننا لا نجد فيها ذِكراً بأن هذه الكلمة تصف القلب كعضو عضلي في تجويف الصدر، بل نجد المعاني الأخرى المَجازية فقط مثل العقل واللبّ والفؤاد.

القلب في الطب

القلب عضلة ذات تجاويف أربعة، وظيفتها الرئيسية هي دفع الدم في الدورة الدموية، بما يشبه عمل المضخة.
فالقلب هو محطة الضخ الرئيسية للدم إلى كافة أعضاء الجسم، لتزويدها بما تحتاج إليه من أوكسجين ومواد مغذية، ولتأخذ عنها ما تطرحه وما تنتجه من مواد ناتجة عن نشاطها الحيوي.
يضخ القلب حوالي خمسة لترات من الدم في الدقيقة، وتنظم حركة الدم في القلب أربعة صمامات هي بمثابة بوابات وحيدة الاتجاه لا تسمح بجريان الدم في اتجاه معاكس، لتستمر دورة الدم دائماً في اتجاه واحد. يَرِدُ الدم إلى القلب عن طريق أوعية دموية تسمى الأوردة، ويصدر الدم عن القلب في أوعية دموية أخرى تسمى الشرايين.

مخطط توضيحي للقلب البشري 

الدورة الدموية

العلاقة التشريحية والوظيفية بين القلب والرئتين هي علاقة وثيقة، وليست مجرد تجاور في الموقع  التشريحي. فالرئة تمنح الدم الأوكسجين الضروري للحياة، وتأخذ منه غاز الكربون الناتج عن النشاط الحيوي في كافة خلايا الجسم. يصل الأوكسجين إلى الرئتين عن طريق تنفس الهواء.
نشعر جميعا بأهمية عملية التنفس عندما نقوم بأي جهد، أو عندما نغطس في الماء ونضطر للتوقف عن تنفس الهواء. فبعد فترة وجيزة نضطر للخروج من تحت الماء لكي نتنفس الهواء.. لأننا نأخذ الأوكسجين الضروري لحياة كل خلية في جسمنا من الهواء الذي نتنفسه في عملية الشهيق (دخول الهواء إلى الرئتين)، والزفير (خروج الهواء من الرئتين). وفي الرئتين يتم انتقال الأوكسجين إلى الدم، الذي يضخه القلب في الدورة الدموية الكاملة التي تشمل:

  • الدورة الدموية الصغرى: من القلب، إلى الرئتين، والعودة إلى القلب.
  • الدورة الدموية الكبرى: من القلب، إلى الجسم، والعودة إلى القلب.
     

الدورة الدموية

كيف اكتشف العلماء دوران الدم؟

أثبت الطبيب الأشهر جالينوس Galen (200-129 قبل الميلاد) أنّ الشرايين تحتوي على الدم بالإضافة إلى روح الحياة (الهواء) الذي يصل إلى القلب والشرايين عن طريق الرئتين. ولكن أين وكيف يمتزج الدم مع الهواء؟ تَصوَّرَ جالينوس أنّ الدم يأتي عبر الأوردة من المعدة والأمعاء والكبد إلى القلب، وأنّ روح الحياة تأتي عبر الشرايين من الرئتين إلى القلب أيضاً، وافترضَ وجود ثقوب صغيرة لا يمكن رؤيتها بالعين في الجدار الفاصل بين البطين الأيسر (الشرياني) والبطين الأيمن (الوريدي)، وأنّ الهواء يمتزج بالدم في القلب من خلال هذه الثقوب.

تقبل الأطباء هذه الفرضية على مر قرون عديدة دون إثبات، ورغم أنّ العالِم العربي ابن النفيس (1213-1288) في كتابه: " شرح تشريح القانون "، قد أثبتَ عدم وجود ثقوب في القلب، ثم قدَّم تفسيراً أكثر صحة، وهو أنّ امتزاج الدم بالهواء يحدث في الرئتين وليس في القلب، إلا أنّ تفسيره لمْ ينتشر إلا بعدما جاء العالِم الإنكليزي الشهير ويليام هارفيWilliam Harvey  (1578-1657) بنظرية متكاملة عن الدورة الدموية.

ابن النفيس (1213-1288)

يستحق ابن النفيس رواية قصة اكتشافاته الطبية الهامة بشيء من التفصيل. ولد علاء الدين ابن النفيس أبو الحسن علي بن أبي الحزم القَرَشي الدمشقي سنة 1210 في عهد الملك العادل سيف الدين الأيوبي. دَرَسَ الطب في البيمارستان النوري الكبير بدمشق، وارتحل إلى القاهرة سنة 1236 حيث عاش مدرساً وفقيهاً وطبيباً، ثم رئيساً لقسم أمراض العيون في البيمارستان الناصري، ورئيساً لأطباء البيمارستان المنصوري، وكان الطبيب الخاص للسلطان الظاهر بيبرس، الذي عيَّنه رئيساً للأطباء فأصبح شيخ الطب في الديار المصرية. لمْ يتزوج ابن النفيس، وعندما توفي سنة 1288 أوصى بجميع أملاكه وأمواله وكتبه وداره للبيمارستان المنصوري، ودُفِنَ في القاهرة.

الدورة الدموية قبل ابن النفيس

كان فهم الأطباء لوظيفة الدم وعمل القلب قبل ابن النفيس يعتمد نظرية جالينوس وابن سينا بأنّ الدم يتشكل في الكبد بعد أنْ تنقل إليه الأوردةُ الغذاءَ من المعدة والأمعاء حيث يتم هضمه وتحضيره. ويتوزع الدم من الكبد إلى كافة أعضاء الجسم ليمدها بالغذاء في تيار مستمر التدفق. عندما يصل الدم إلى القلب الأيمن يمر قسم منه عبر ثقوب غير ظاهرة إلى القلب الأيسر، حيث يختلط معه الهواء الآتي من الرئتين، ومِنْ هذا المزيج تتولد روح الحياة في القلب الأيسر وتتوزع على الجسم عبر الشرايين. في هذا التصور لايوجد دورة دموية، وإنما تيار مستمر من الدم في الأوردة، وتيار مستمر آخر من الدم الممزوج بروح الحياة في الشرايين، ولذا يحتاج الإنسان إلى تغذية مستمرة لتوليد الدم في الكبد. أما الرئتان فوظيفتهما تبريد الدم. رد ابن النفيس في كتاب "شرح تشريح القانون" على هذه النظريات بجرأة استند فيها على تشريح دقيق قام به على الحيوانات، وربما الإنسان، ونَفَى ابن النفيس وجود ثقوب بين البطينين في القلب نفياً قاطعاً، وفَسَّرَ مرور الدم من القلب إلى الرئتين حيث يتزود بالهواء الضروري للحياة، ثم يعود إلى القلب، ومنه إلى كافة أنحاء الجسم (الدورة الدموية الرئوية أو الدورة الصغرى). وتَنبأ بوجود قنوات شعرية دقيقة تصل الشرايين بالأوردة في الرئتين، ولكنه لمْ يعمم ذلك على بقية أنحاء الجسم، ولو فعل ذلك لأتمّ اكتشاف الدورة الدموية الكبرى أيضاً.

ظلت اكتشافات ابن النفيس مجهولة وطواها النسيان حتى أعاد اكتشافها طبيب مصري هو محي الدين التَطَّاوي (1896-1945) الذي دَرَسَ الطب في ألمانيا سنة 1920. عثر التَطَّاوي على مخطوطة كتاب "شرح تشريح القانون" في برلين، وحققها في رسالةٍ لنيل درجة الدكتوراة من جامعة فرايبورغ بألمانيا سنة 1924. دار جَدَلٌ طويل بين المحققين عن صحة ذلك، حتى تأكدت على يد عدة باحثين عرب وأجانب.

ولكن هل عرف هارفي اكتشافات ابن النفيس؟ وهل وصلتْ إليه؟ وكيف؟

ويليام هارفي William Harvey (1578-1657)

ولد هارفي في انكلترا في عائلة ثرية، ودَرَسَ الطب في جامعة بادوفا بإيطاليا في الفترة 1599-1602، كما حَصَلَ في السنة نفسها على شهادة الطب من جامعة كامبريدج في انكلترا. وأصبح طبيب الملك جيمس الأول سنة 1618، ثم تشارلز الأول في 1632. نَشَر هارفي كتابه الهام عن دراسته التحليلية لحركة القلب والدم De Motu Cordis في فرانكفورت بألمانيا سنة 1628، وَصَفَ فيه الدورة الدموية ودور القلب في ضخ الدم، وذكر أنّ نبض الشرايين وضغط الدم وتدفقه إنما تنتج عن تقلصات القلب، واستند في نظريته هذه على تشريح أنواع كثيرة من الحيوانات وربما جثث الإنسان.

يُعتبر هارفي أول مَنْ وضع التصور الحديث لمفهوم الدورة الدموية في جسم الإنسان، ووضح أنّ البطين الأيسر من القلب يَضخ الدم إلى كافة أنحاء الجسم عبر شبكة واسعة من الشرايين، ثم يعود الدم إلى البطين الأيمن القلب عبر شبكة من الأوردة (الدورة الكبرى)، ومن ثمّ يَضخ البطين الأيمن الدم إلى الرئتين حيث يمتزج بالهواء، ويعود إلى البطين الأيسر (الدورة الصغرى)، لتكتمل الدورة الدموية الكاملة، وتبدأ من جديد.

كما نجح هارفي بقياس كمية تدفق الدم من القلب في كل نبضة وخلال دقيقة واحدة، وحَسَبَ كمية الدم التي يضخها الدم في اليوم، وأثبت أنّ الكبد لا يستطيع صنع كل ذلك الدم مهما كان الغذاء، ولذا لابد أنّ الدم يسير في دورة متكررة وليس في تدفق مستمر مفتوح. تضاربت اكتشافات هارفي في الدورة الدموية مع التراث الطبي العريق لجالينوس وابن سينا الذي كان سائداً في العالم حتى القرن السابع عشر. وأثار كتابه اعتراضات كثيرة في الوسط الطبي.

لمْ يَذكر هارفي أي مراجع عربية أو إيطالية في توصله إلى نظريته الثورية، رغم أنه دَرَسَ في جامعة بادوفا التي كانت عميقة الصلة بالطب العربي واليوناني القديم. فهل وصلت إليه آراء ابن النفيس وغيره أثناء دراسته في جامعة بادوفا؟ يتحتم علينا الرحيل إلى إيطاليا القرن السادس عشر كي نستطيع الإجابة على هذا السؤال.

مشاهدة صورة المصدر

العالم الإنكليزي الشهير ويليام هارفي أول من وصف الدورة الدموية الكاملة

إيطاليا عصر النهضة وجامعة بادوفا

تأسست جامعة بادوفا في إيطاليا سنة 1222، وهي من أعرق جامعات العالم، وتولى مؤسس علم التشريح الحديث أندرياس فيزاليوس Andreas Vesalius  (1514-1564) رئاسة قسم التشريح والجراحة فيها، ونَشَر كتابه الهام في علم التشريح سنة 1543 الذي وَصَفَ فيه تشريح القلب والشرايين والأوردة بكل وضوح، وذكر علاقة النبض بتقلص عضلة القلب، ولكنه لم يكتشف الدورة الدموية، ولم يتحدث عن الدورة الدموية الرئوية.

عاش الطبيب الإيطالي أندريا ألباغو Andrea Alpago (1450-1522) في دمشق حوالي 30 سنة أتقن فيها اللغة العربية وقام بالترجمة الأولى الكاملة لموسوعة ابن سينا "القانون في الطب" إلى اللغة اللاتينية، كما ترجم كتابين آخرين لابن سينا وأجزاء من كتاب "شرح تشريح القانون" لابن النفيس. نَشَرَ ابن أخيه باولو ألباغو Paolo Alpago هذه الترجمات في البندقية في الفترة 1527-1547، وأعيد طبع هذه الترجمات في بازل عدة مرات في الفترة 1556-1608. وفي سنة 1553 نَشَرَ العالِم الاسباني الطبيب والفيلسوف اللاهوتي ميكائيل سرفيتوس Michael Servetus  (1509-1553) كتابه المثير للجدل "إصلاح المسيحية" وفيه وصف الدورة الدموية الرئوية كما وصفها ابن النفيس تماماً قبل ذلك بثلاثة قرون. عاش سرفيتوس في ألمانيا وسويسرا وبازل وفرنسا وإيطاليا وبادوفا، وكان يجيد عدة لغات، وربما اطلع حينها على ترجمة أعمال ابن النفيس.

أما ريالدو كولومبو Realdo Colomo (1515-1559) الذي عاصر فيزاليوس في جامعة بادوفا، ودرّس في جامعتي روما وبيزا، فقد نَشَر سنة 1559 كتابه "عن التشريح" الذي وَصَف فيه الدورة الدموية الرئوية مثلما وَرَدَتْ في كتاب سرفيتوس دون أن يشير إلى مصادره. وتبعه معاصره أندريا سيزالبينو Andrea Cesalpino (1519-1603)، الذي درّس أيضاً في جامعتي بيزا وروما، وكان طبيب البابا كليمنت الثامن، وكَتَبَ في الفترة 1571-1573 أفكاراً غير مترابطة عن الدورة الدموية، وكان أول من استعمل اصطلاح "الدورة الدموية"، إلا أنّ نظريته لم تكن واضحة، ولم ترتكز إلى معلومات تشريحية وفيزيولوجية محددة عن دوران الدم.

دَرَسَ هارفي في جامعة بادوفا خلال تلك الفترة الحافلة بثورة في المعلومات التشريحية والنظريات الجديدة عن عمل القلب والدورة الدموية، ولا شك بأنه اطلع على كتب وأفكار ونظريات هؤلاء العلماء والأساتذة في بادوفا وإيطاليا. وكان لدى هؤلاء العلماء فرصة الاطلاع على أعمال ابن النفيس أيضاً خاصة بعد ترجمتها إلى اللاتينية في تلك الفترة أيضاً. ولا شك بأنهم قاموا أيضاً بكثير من الفحص والتشريح، ووثقوا أعمالهم جيداً، ونشروها مرفقة برسومات مفصلة رائعة. إلا أنهم لم يذكروا مصادرهم، ولم يشيروا إلى اطلاعهم على كتب ابن النفيس أو غيره. ولمْ يفعل هارفي ذلك أيضاً، فضاع الفضل بين العلماء. ولا يقلل ذلك كله من أهمية الأبحاث التجريبية والقياسات الكمية التي قام بها هارفي، فقد استطاع بجهده المركز وفحصه الدقيق أنْ يؤسس بحق فهمنا الحديث للدورة الدموية الكاملة في الرئتين وفي الجسم، وفهم عمل القلب ودوره الهام في ضخ الدم عبر الشرايين إلى الجسم وإلى الرئتين، في عمل مستمر دؤوب ضروري لحياة جميع أعضاء الجسم في الإنسان والحيوان.

 

المصدر:

قصة القلب، كيف كشفه رجاله، د. عامر شيخوني

 

 

آخر تعديل بتاريخ
29 نوفمبر 2022
Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.