وفي كل مرّة كان الكشف الإكلينيكي يعضّد شكواها، بالرغم من أنها تحرص على تعليماتي كل الحرص، وتتناول أدويتها بانتظام، كما أنه لا يبدو عليها سوى الجدية والمعاناة في كل مرة تزورني فيها، فأحسست بالذنب لسوء ظنّي. وبعد عمل كل الفحوصات اللازمة معمليًا، حتى وصل الأمر إلى مناظير الجهاز الهضمي، جاء كل شيء متوافقًا مع تشخيصي لها منذ المرة الأولى والذي جاء مطابقًا لمعايير روما-4 (Rome-IV criteria) لتشخيص متلازمة الأمعاء المضطربة (Irritable Bowel Syndrome).
حتى جاءتني في إحدى الزيارات بصحبة زوجها الذي بدا عليه عدم التفهم والتبرّم لمجرد تعب زوجته، ولم يكف عن السخرية منها ومن معاناتها رغم أنها كانت مرّتي الأولى لرؤيته، وربما الأخيرة، وهو ما صدق فيه حدسي عندما جاءت مدام (بسنت) بصحبة أختها عند الاستشارة، وهي لا تتحسّن إلا طفيفًا، رغم إضافة الأدوية الخاصة بتحسين المزاج ومضادات الاكتئاب التي عادة ما تكون السلاح الأخير في مثل تلك الحالات. وهكذا وجدتها فرصة لأستأذن من أختها أن أسألها عدة أسئلة ليتكشّف لي السر الرهيب الذي كنت أشك فيه وبقوة، فحقيقة الأمر أن مدام (بسنت) الشابة، رائعة الجمال، ميسورة الحال، هي مجرّد امرأة تعيسة أخرى تعاني من كل أشكال العنف المنزلي والأسري من إهانات وضرب وسباب وضغط نفسي وعصبي لا يتحمله إنسان.
وهنالك سألت نفسي عن الدور الذي من الممكن أن تلعبه الآن أخصائية الطب النفسي في علاجها.. وقد كان..
- فهل هناك علاقة وثيقة بين العنف المنزلي ومتلازمة اضطراب الأمعاء بشكل علمي؟
من المعروف أن متلازمة اضطراب الأمعاء أو متلازمة الأمعاء المتهيّجة والمعروفة باسمها الشائع القولون العصبي أهم خلل وظيفي يصيب الجهاز الهضمي، وربما الجسم كله، وأكثرها شيوعًا على الإطلاق من واقع كل الاحصائيات في كل الدول والشعوب والأقطار. وقد سبق وأن تناولت في مقالة سابقة أسباب هذه الأعراض، والتي نختصرها في مقولة أن بعضها بيولوجي وبعضها نفسي وبعضها متعلق بالعادات والطرق الغذائية الخاطئة. وقد أهمل الأطباء خلال بحوثهم المستفيضة علاقة مريض القولون العصبي بأهله وأقاربه وأصدقائه، بل وزملائه في العمل. والرد على هؤلاء أقول (أعزائي وزملائي، مريض القولون العصبي لا يعيش في الفراغ، بل هو في حالة تفاعل دائم مع كل ما ومن يحيط به من أشياء وأشخاص). إدراك هذا الأمر سيسهم بلا شك في تحسين الخدمة التي نقدمها لمرضانا.
وإذا ما حانت منا لفتة لقائمة الأعراض التي يشكو منها مريض القولون العصبي سنجد منها: القلق، التوتر، الاكتئاب، الألم الشديد عند الجماع، فقدان الشهوة الجنسية، اضطرابات التبول، اضطرابات الطمث، الإرهاق المزمن والصداع، وكلها أعراض تدل أن متلازمة الأمعاء المضطربة هي مرض يصيب الجسم كله، وليس الجهاز الهضمي فقط.
وقد وجد العلماء أنه كلما زاد القلق والتوتر والعصبية، أثّر ذلك على انتظام حركة الأمعاء، بل ووصل الأمر إلى حدوث تغيّرات في المعاملات الالتهابية ونسق البكتيريا والميكروبات الحميدة المستوطنة للأمعاء، وهو ما تم ربطه مؤخرًا بأمراض كالسمنة والكبد الدهني، وهو ما يعني أيضًا أن القلق والتوتر والعصبية والاكتئاب ربما تزيد من احتمالات الإصابة بالسمنة والكبد الدهني؛ من خلال نفس المسارات والعلاقات الشرطية بين الجهاز الهضمي بمشتملاته، وبين الجهاز العصبي المركزي والمخ بمواده الكيميائية، وحالاته النفسية والعصبية.
- ما هو حجم هذه المأساة؟
يعتبر العنف الأسري أو العنف المنزلي أو العنف داخل المنزل من الكوابيس الصحية الآخذة في التصاعد بسرعة الصاروخ. وفي إحدى الإحصائيات بالولايات المتحدة الأميركية ثبت أن مواطنيها يقومون بثلاثمائة وعشرين ألف زيارة للطبيب كل سنة بسبب العنف المنزلي، وهو ما يكلّفهم 8.3 مليارات دولار سنويًا. لدرجة أنهم يسخرون من هذا الأمر بقولهم إن العنف المنزلي يكلّف أميركا أكثر من مرض السكر نفسه؛ والذي يعتبر القلق الصحي رقم واحد في الولايات المتحدة الأميركية.
وقد أثبتت إحصائيات الأمم المتحدة مؤخرًا أن 603 ملايين امرأة يتعرضن للعنف المنزلي كل عام، وهو ما يساوي عدد سكان أميركا ومصر والبرازيل مجتمعة.
وفي مصر أثبتت نفس تلك الإحصائيات أن 47% من النساء المتزوجات، المطلقات، المنفصلات، أو الأرامل يعانين من العنف المنزلي على شكل ضرب، وجلد، وسب، وحروق وغيرها.
- قاتلان لنفس واحدة..
أثبتت العديد من الدراسات في عدة دول في العالم وجود علاقة وثيقة بين العنف المنزلي والقولون العصبي. وأن نسبة النساء اللائي يعانين من عنف منزلي وقولون عصبي حوالي 23.8%، بينما عدد النساء اللائي أنكرن وجود أي علامات وشواهد للعنف الأسري فقد كان 13.1% فقط.
وفي دراسة موسعة أجريت على 3090 مريضة بالقولون العصبي، تم إرسال استقصاء عبر البريد عن العنف المنزلي والأسري، خصوصًا من الأزواج أو الآباء أو الإخوة أو الأقارب، فاستجابت 1575 مريضة، 75% منهن كن متزوجات أو مرتبطات تمهيدًا للزواج، فأقرّت 6% بأن القولون العصبي أثّر على حب أزواجهن لهن، 19% وجدن صعوبات في علاقاتهن بأزواجهن، و45% منهن كنّ متأكدات أن القولون العصبي يؤثر على رغبتهن الجنسية واستمتاعهن بذلك.
- ما هو الحل؟
الحل جاءني عندما غابت عني مدام (بسنت) لمدة أربعة أشهر، وجاءتني إنسانة جديدة بعد أن استمعت لنصيحتي، وزارت الطبيبة النفسية، وقامت بعدة جلسات للعلاج النفسي، بل وكانت المفاجأة الكبرى أن الزوج المغرور هو نفسه كان يعاني من مرض زوجته مما زاد من قساوته، وأنه عندما لاحظ تغيّر زوجته بهذه الجلسات وافق هو أيضًا أن يشاركها تلك الجلسات، وهما يواظبان عليها الآن بمعدل جلستين أسبوعيًا.
طرق خفيف على الباب ليدخل الزوج الهاشّ الباشّ ممسكا يد زوجته في حنان، سألتها سؤالًا أخيرًا عن أدويتي التي كتبتها لها آخر مرة.. نظرت لزوجها وابتسمت قائلة (لقد توقفت عنها كلها، هذه زيارة ودية يا دكتور محمد لنشكرك فقد أنقذت حياتنا).