ينتشر اعتقاد راسخ لدى كثير من الناس أن تلوث البيئة هو السبب الرئيسي في زيادة معدل حدوث مرض السرطان، وبسبب هذا الاعتقاد، تتولد لدى الكثيرين قناعة بأن من إحدى أهم وسائل الوقاية من المرض، بل والمساعدة على الشفاء منه في حال الإصابة به، هي الرجوع إلى الطبيعة والعيش في الأماكن ذات الطبيعة النقية الخالية من الملوثات، والاعتماد في الطعام والشراب على كل ما هو خال من المواد المصنعة، وتناول الخضروات والفاكهة المزروعة في أماكن تقل فيها نسب التلوث والاعتماد على الأسمدة المصنعة والمبيدات الكيماوية.
فهل هذا الاعتقاد سليم؟ وإلى أي مدى يرتبط تلوث البيئة، سواء كان تلوثا طبيعيا أو من صنع الإنسان، باحتمال حدوث السرطان؟
* سرطان الرئة الأكثر دراسة
لعل من أكثر أنواع السرطانات التي خضعت للبحث من حيث علاقتها بتلوث الهواء، هو سرطان الرئة، حيث أشارت بعض الدراسات إلى زيادة نسبة حدوث سرطان الرئة لدى الأشخاص الذين يعيشون في مناطق أكثر تلوثا عن نظرائهم الذين يعيشون في مناطق أقل تلوثاً بحوالي 10 إلى 20 %.
وأرجعت هذه الدراسات زيادة حدوث سرطان الرئة إلى توافر عدة عوامل، منها:
- استنشاق الهواء الملوث بمجموعة من المركبات الكيميائية، مثل ثاني أكسيد النيتروجين، الفورمالدهيد، ومركبات البنزين على سبيل المثال.
- وأثبتت الإحصائيات أيضا زيادة حدوث مرض سرطان الرئة في الأماكن السكنية التي تزيد فيها نسبة تلوث مواد البناء المستخدمة في بناء المنازل بغاز الرادون بنحو 10 % عن النسبة الطبيعية.
ويتواجد غاز الرادون في التربة بشكل طبيعي نتيجة تحلل عنصر اليورانيوم في الطبيعة، وتزيد كثافته بشكل أكبر في الأماكن ضعيفة التهوية.
وهناك العديد من التشريعات التي صدرت في بعض الدول الأوروبية بفرض العقوبات على شركات البناء التي تستخدم مواد بناء مخالفة يزيد فيها نسبة هذه العنصر.
- وكذلك الحال بالنسبة لمادة الأسبستوس (Asbestos) التي تستخدم في بعض الصناعات والحرف، ويكثر التعرض لها عند عمال المناجم ومصانع الفحم، ويرتبط تلوث الهواء بهذه المادة بزيادة نسبة حدوث سرطان الغشاء البلوري الذي يحيط بالرئتين، حيث تبلغ نسبة الزيادة في حدوث هذا النوع من السرطان إلى نحو ثمانية أضعاف النسبة العادية في هذه المناطق.
وهناك بعض البلدان العربية التي تعاني من تمركز مصانع الأسبستوس في أماكن معينة في المدن الكبرى فيها، وقد لوحظ زيادة نسبة حدوث هذا النوع من السرطان عند سكان هذه المناطق بشكل أكبر من الذين يعيشون في مناطق أخرى بعيدة عنها.
- من المعروف لدى الكثيرين أيضاً أن التدخين يمثل أحد أهم العوامل المرتبطة بحدوث سرطان الرئة، ولكن يتصور الكثيرون أن ذلك مرتبط فقط بالأشخاص المدخنين أنفسهم، إلا أن الدراسات أثبتت أن زيادة نسبة حدوث السرطان مرتبطة أيضاً بالجلوس لفترات طويلة بجانب أشخاص يدخنون، وهو ما يعرف بـ "التدخين السلبي".
لأجل ذلك أصدرت كثير من الدول تشريعات لمنع التدخين داخل الأماكن المغلقة بشكل عام، وداخل المستشفيات بشكل خاص، إلا أن مشكلة التدخين السلبي مازالت تمثل أحد أهم ظواهر التلوث البيئي المرتبطة بحدوث السرطان.
* وماذا عن التليفون المحمول والمايكرويف؟
ومن الملوثات البيئية التي ترتبط بشكل كبير بالتقدم التكنولوجي في العصر الحديث تأتي الموجات الكهرومغناطيسية، كموجات الراديو والمايكرويف وكذلك التليفون المحمول، وهناك اعتقاد شائع لدى كثير من الناس بأن التقدم التكنولوجي واستخدام الأجهزة الحديثة أدى إلى زيادة نسبة الإصابة بكثير من الأمراض التي لم تكن شائعة من قبل.
إلا أن الدراسات التي تناولت تأثير مثل هذه الموجات الكهرومغناطيسية على حدوث المرض لم ترق إلى درجة كبيرة من القوة، بحيث يمكن الاعتماد عليها والخروج منها بنتائج موثقة.
وقد أشارت بعض الدراسات إلى احتمالية وجود تأثير لهذه الموجات على زيادة نسبة حدوث سرطان الدم عند الأطفال.
* المبيدات العضوية وغير العضوية
- المبيدات العضوية من بين الملوثات البيئية التي يتم استخدامها في الزراعة في بعض المناطق، وتأتي أهمية بحث علاقة هذه الملوثات البيئية بالإصابة بالسرطان، نظرا لخاصية بقائها في التربة لفترات طويلة.
وهناك اعتقاد شائع بوجود ارتباط مباشر بين كثرة استخدام هذه المواد في الزراعة وزيادة نسبة الإصابة بالسرطان بين من يتغذون على المحاصيل الزراعية التي تنتج من هذه المناطق.
لكن هذا الاعتقاد مازال قيد البحث ولم يرق بعد إلى مستوى التأكيد، رغم أنه لا يخلو من بعض الصحة، فقد أثبتت بعض الدراسات التي أجرتها المنظمة الدولية لأبحاث السرطان، وجود علاقة بين تناول هذه المواد في الغذاء وزيادة نسبة الإصابة بالسرطان لدى الحيوانات، وأشارت إلى احتمالية وجود هذا الارتباط عند الإنسان أيضاً، تبعاً لذلك.
- إلى جانب المبيدات العضوية، هناك أيضا المبيدات غير العضوية فقد أشارت بعض التقارير إلى أن هناك مجموعة من العناصر الموجودة في هذه المبيدات، والتي قد ترتبط بزيادة حدوث السرطان، إلا أن قلة الدراسات الإحصائية -نتيجة ندرة الحالات- أدت إلى صعوبة الجزم بوجود علاقة مباشرة بين أغلب هذه المواد ومرض السرطان، ما عدا عنصر الأرسينيك (Arsenic) والذي تم تصنيفه من خلال المنظمة الدولية لأبحاث السرطان كأحد المسرطنات.
ويتواجد عنصر الأرسينيك غير العضوي (Inorganic Arsenic) في بعض المناطق في مياه الشرب بنسب متفاوتة، وأثبتت بعض التقارير ارتباط وجوده بنسب أكبر من النسب التي حددتها منظمة الصحة العالمية (WHO)، بارتفاع احتمالية الإصابة بسرطان المثانة البولية والرئتين والجلد.
*** أخيرا، يمكن القول إن هناك ارتباطا ما بين تلوث البيئة من حولنا وزيادة نسبة الإصابة بمرض السرطان، إلا أن الدراسات لم تنته إلى نتائج مؤكدة بالنسبة لأغلب الملوثات البيئية.
ويرجع هذا إلى صعوبة تحديد كثافة التعرض لهذه الملوثات البيئية لدى الأشخاص المصابين بالمرض، فضلاً عن تداخل العوامل المسببة للسرطان عند كل مريض.
لكن لا شك أن تجنب هذه الملوثات قدر الإمكان، من خلال اتباع أسلوب حياة صحي في الغذاء والشراب والمسكن، يعد من أهم الأسباب لتجنب مرض السرطان وأمراض كثيرة أخرى.
اقرأ أيضا:
هل تزيد السمنة من خطر الإصابة بالسرطان؟
8 نصائح ذهبية لتناول طعام صحي
الإلكترونيات تؤثر على جودة نوم الأطفال
البكتيريا المعوية قد تساعد في علاج السرطان
الفلافونويدات تحميك من السرطان وأمراض أخرى
دراسة تحذر من خطر المُحليات الاصطناعية على صحة الأطفال
* المصادر
- Air pollution in Europe 1990-2000
- IARC Monographs on the Evaluation of
Carcinogenic Risks to Humans
- International Agency for Research on Cancer,