صحــــتك

هل هناك علاقة بين حاسة الشم والجاذبية الجنسية؟

العلاقة الجنسية
هل تؤثر رائحة الجسم على الجاذبية الجنسية؟

تَساءلَ علماء الأحياء كثيراً عن الطرق التي تَتبعها الحيوانات في انتقاء الشريك المناسب للتزاوج والتناسل وحفظ النَّوع. ولاحظوا منذ زمن طويل كيف تَستخدِم الحيوانات رائحتها في التعارف فيما بينها، وفي تعيين حدود مكان وجودها وسيطرتها. فهل للروائح دور أيضاً في انتقاء شريك التزاوج عند الحيوان والإنسان؟ وهل لكل فرد من أفراد مجموعة من الحيوانات رائحة خاصة تميزه؟ وعندما عرف العلماء التَنوّع الغزير والتَّميز الفريد الذي تُمَثِّله مُوَرِّثات التَوافق وزُمَر المَناعة، سرعان ما طَرح السؤال نفسه: هل هناك علاقة ما بين رائحة الجسم والزُمَر المَنَاعية التي يَحملها؟ وهل تلعب هذه الزُمَر دوراً في انتقاء شريك التزاوج عند الحيوانات؟ وعند الإنسان؟

دراسة حاسة الشَّم

ليس من السهل علمياً دراسة حاسة الشَّم. إذ نستطيع دراسة حاسة النظر مثلاً بقياس طول موجة الضوء الذي يَستَثيرُها، كما نستطيع دراسة حاسة السّمع بدراسة الأمواج الصوتية التي تَسمعها الأذن، ولكن كيف نقيس مثلاً رائحة زهور البنفسج؟ وكيف نستطيع قياس صفاتها الخاصة؟ كما أننا لا نستطيع حساب كيف "نشمّ" جزيئات مادة معينة، ولا يمكننا حتى الآن قياس العلاقة بين التركيب الكيميائي والشكل الجزيئي لمادة ما، والرائحة الخاصة التي يمكن أنْ نَشمّها في تلك المادة.

ولا يمكن التَّنَبؤ عادة برائحة مادة ما إلا بالاعتماد الفعلي على شَمِّها. فالإحساس بالروائح مسألة شخصية يَصعب قياسها، وذلك مثل الإحساس بالألم الذي يَصفه المريضُ للطبيب، إلا أنّ الطبيب لا يستطيع علمياً قياس الألم الحقيقي الذي يَشعر به المريض. يستطيع الأطباء قياس حرارة المريض وضغط دَمِه، ويَتمكَّنوا من عَدِّ النَّبض بسهولة، إلا أنّ بعض الأمور الأخرى، مثل الشعور بالألم أو الروائح المختلفة، هي أمور "شخصية" لا يمكن قياسها بشكل علمي موضوعي.

اقتراح جريء

اقتَرَح العالِم الأمريكي لويس توماس Lewis Thomas (1913-1993) في كتابه الشهير "حياة الخلية" سنة 1974 أنّ الزُمَر المَنَاعية قد تَمنح الفرد الذي يَحملها رائحة معينة، وافتَرَضَ أنّ الكلاب ربما تُمَيِّز بين البشر بحسب الزُمَر المَنَاعية التي يَحملونها في خلاياهم، أي أنّ الكلاب بفضل حاسة الشَّم القوية التي تَتمتع بها ربما تَستطيع كشف رائحةٍ خاصةٍ يحملها كل فرد من البشر نتيجة التميز الفريد في الزُمَر المَنَاعية الموجودة في جسمه.

الشَّم والتزاوج عند الفئران:

قام فريق من العلماء في أمريكا بدراسة مدى صحة اقتراح لويس في أهمية الروائح للتمييز بين الأفراد، فطبَّقوا تجارب بارعة لتحري استخدام حاسة الشَّم عند الفئران في انتقاء شريك التزاوج. وأثبتوا أنّ الفئران تنجذب بالفعل نحو الروائح الخاصة التي يَحملها أفرادها، وأنها تستطيع التمييز والتفضيل بينهم عن طريق الرائحة الخاصة التي يَحملها كل فرد.

واستطاعوا تبيان وجود تجاذب بين الفئران والجرذان نحو بعضها بعضاً بحسب الرائحة الخاصة التي توجَد في بَول كل منها. كما لاحظوا أنّ التجاذب والتزاوج الحرّ بين الفئران يؤدي إلى تَنوع غزير في تَوزّع الزُمَر المَنَاعية فيها، وكأنها تسعى إلى تفضيل التزاوج مع من يختلف عنها في الزُمَر الوراثيّة. وهذا يَطرح علينا أسئلة عديدة: كيف تستطيع الفئران "شَمَّ" وتَمييز الزُمَر المَنَاعية لدى بقية الفئران؟ وما هي فائدة ذلك في حفظ النوع؟ وهل ينطبق ذلك على البشر؟

هل لكل زمرة مناعية رائحة خاصة؟

ذكرتُ من قبل أنّ الزُمَر المَنَاعية هي مواد بروتينية، أي أنها ليست زيوتاً أو مواد طيَّارة (روائح) تَتبخَّر وتَنتشر في الهواء لكي تَتمكّن أنوف الفئران من شَمِّها! فهل يَنتج عن وجود زُمرَة مَنَاعية مواد طيَّارة ربما تُطرَح عن طريق البول؟ لمْ يتمكن العلماء حتى الآن من كَشف وتحديد ذلك.

أما قدرة أفراد نوعٍ ما مِنَ الحيوانات، مثل الفئران، من "شَمِّ" وتَمييز الزُمَر المَنَاعية للأفراد الآخرين من ذلك النوع، فربما تساعدهم في التَّعرف على أقربائهم وتَجَنّب التزاوج معهم، بل ربما تَفضيل التزاوج مع غيرهم لزيادة التَنَوّع في الزُمَر المَنَاعية، مما قد يُجَنِّبُ النوعَ مخاطرة القضاء على جميع أفراده تماماً إذا تعرض لوباء ما، وذلك لأنّ تَنوّع الزُمَر المَنَاعية قد يَمنح بعض أفراد النوع مَناعة طبيعية ضد بعض الأمراض التي ربما تقضي على جميع الآخرين. وربما يساعِد "شَمُّ" الزُمَر المَنَاعية الخاصة بكل فرد على تَعرُّف الأمهات والآباء على نسلهم؟ ويمكن ملاحظة ذلك مثلاً في تَعَرُّف القطط على نسلها ربما بالرائحة الخاصة التي تميزها، وكذلك تَعَرُّف الخراف والطيور على نسلها ضمن مجموعة كبيرة من أفراد القطيع أو السرب.

هل يَشُمُّ الحبيبُ حَبيبَه؟

يَتحدَّث الأدباء والشعراء كثيراً عن الحب من النظرة الأولى، ويروون قصصاً وقصائد عن ذلك. وربما شَعَر كثير منا أحياناً بانجذاب خفيّ نحو شخص آخر، أو بنفور غامض يبعدنا عنه، بمجرد لقاء عابر دون أن نعرف عنه شيئاً. فهل نتجاذب نحن البشر نحو بعضنا، أو نتنافر لا شعورياً بحسب الرائحة الخاصة التي يَنشرها جسم كل واحد منا حول نفسه؟ قامتْ مجموعة من العلماء في سويسرا سنة 1994 بإجراء تجربة جريئة لمحاولة الإجابة على هذا السؤال.

تجربة شمّ مثيرة!

في جامعة برن السويسرية، قام العالِم كلاوس ويديكيند Claus Wedekind (1967) بإجراء تجربة تاريخية اشتهرتْ باسم "دراسة القمصان التي تَفوح منها رائحة العَرَق". دَرَسَ ويديكيند الزُمَر الوراثية لدى 49 طالبة و 44 طالباً في الجامعة، وطَلَب من كل رجل أن يلبس قميصاً قطنياً واحداً على مدى يومين، يَتجنب خلالهما استخدام أي عطر، وأي صابون معطر، وأي مضاد للتعرق، وأن يَتجنب الجلوس في مكان مغلَق فيه روائح قوية، ويَتجنب ممارسة أي علاقة جنسية في تلك الفترة. كما طَلَب من كل امرأة استخدام بخاخ في الأنف لتقوية حاسة الشَّم لمدة أسبوعين، وكذلك قراءة قصة بوليسية معيَّنة تزيد انتباه القارئ لأهمية الروائح. جُمعتْ قمصان الرجال، ووضِع كل منها في علبة مغلقة، وطُلب من كل امرأة أنْ تجلس لوحدها في غرفة، وأنْ تَشمَّ ستة قمصان، وأنْ تضع لكل منها علامة من صفر إلى تسعة لتقييم قوة الرائحة وسحرها وجاذبيتها الجنسية دون أنْ تَعرِف بالطبع مَن هو صاحب أي قميص.

يبدو أنّ بعض الصحفيين قد شَمَّ رائحة خبرٍ مثير في هذه التجربة، فتَسرَّبتْ أخبارها قبل نَشر نتائجها إلى الصحافة ووسائل الإعلام، وأثارتْ كثيراً من التعليقات اللاذعة والانتقادات الحادة في الصحافة السويسرية، بل وتَلَقّى بعض المشاركين فيها رسائل تهديد ووعيد. وبالطبع سارع بعض السياسيين فوراً لركوب هذه الموجة. اتَّصل أحدهم بالباحث ويديكيند وطَلَب منه وَقف هذه "الأبحاث النازيّة" فوراً. واتَّصل بعضهم بإدارة الجامعة وطَلبوا منهم وَقف البحث وطَرد الباحثين، إلا أنّ إدارة الجامعة لمْ تَرَ في ذلك البحث عيباً أو خطأ. لمْ تَقبل مجلات علمية مرموقة مثل Nature وScience نَشْرَ البحث، ولكنه نُشِر أخيراً في مجلة الجمعية الملكية في لندن سنة 1995. استَنتَجت هذه التجربة: " يبدو أنّ النساء تَنجذب أكثر نحو رائحة الرجال الذين يختلفون عنهن في الزُمَر المَنَاعية". وعلى العكس من ذلك فقد اكتُشِف في تلك التجربة أنّ: " النساء اللواتي يَستخدمن حبوب مَنع الحَمل يَشعرن أنّ رائحة الرجال الذين يتشابهون معهن في الزُمَر المَنَاعية أكثر سحراً وجاذبية"!

لمْ تَتقبل الأوساط العلمية هذه النتائج بسهولة، وعبَّر كثير من العلماء عن شكوكهم بها، وعلَّق آخرون أنّ هذه الاستنتاجات مثيرة للاهتمام، ولكنها تحتاج إلى مزيد من الدراسات لقبولها أو نفيها. وبالفعل لمْ تؤيِّد الأبحاث الجديدة هذه النتائج تماماً، بل أضافتْ مزيداً من الغموض حولها. فلمْ تَتوصَّل بعض الدراسات المماثلة إلى نتائج واستنتاجات مماثلة تؤكدها، فقد لوحِظ في دراسة نُشِرتْ سنة 2002 أنّ إعجاب المرأة برائحة الرجال ربما تتعلق بالزُمَر المَنَاعية التي تَحملها هي نفسها، وفيما إذا كانت قد وَرِثَتْها عن أمها أمْ عن أبيها!

بينما أكَّدتْ دراسة نُشِرتْ سنة 2008 استنتاج ويديكيند أنّ حبوب مَنع الحَمل تُغيِّر بالفعل من جاذبية روائح الرجال الطبيعية عند النساء، ولم تُلاحَظ في تلك التجربة أية علاقة بين إعجاب النساء برائحة الرجال والاختلاف بين زُمَرِهم المَنَاعية. وفي دراسة أخرى على مجموعةٍ من النساء اللواتي يَعِشن ضمن جماعة معزولة اجتماعياً، سُجِّلَ تزايد إعجاب هؤلاء النسوة برائحة الرجال الذين لا ينتمون إلى مجتمعاتهن المعزولة ذاتها، إلا أنهن فَضَّلْنَ روائح الرجال الذين يَحملون زُمَراً مَنَاعية مشابهة لتلك التي يحملها آباؤهن!

ويبدو أن اختلاف نتائج هذه الدراسات ربما يَرجع إلى اختلاف طريقة الدراسة، والفئة التي تمّ إجراء الاختبارات عليها، والمجتمع الذي يعيشون فيه، والثقافة العامة التي يملكونها، والظروف الاجتماعية والبيئية التي تَعرَّضوا لها، والمزاج العام للمجموعة التي دُرِسَتْ والمجتمع الذي تَنتمي إليه ... وعند دراسة الزُمَر المَنَاعية لدى الأزواج عند الإنسان، لوحِظ أنّ احتمال وجود تقارب وتشابه في الزُمَر المَنَاعية بين الزوجين هو أكثر من احتمال وجود اختلاف كبير بينهما، وهذا يُخالِف نتائج الدراسات التي قام بها ويديكيند! فما هو الجواب العلمي الحاسم على هذه المسألة؟

 

المصدر:

كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني

 

آخر تعديل بتاريخ
12 يونيو 2023
Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.