صحــــتك

نظرية علمية غريبة في فهم المناعة الطبيعية

كيفية مكافحة شيخوخة جهاز المناعة؟
خلايا المناعة المسؤولة عن انتاج مضادات الأجسام النوعية

اعتقد العالِم الشهير بولينغ أنّ "مضادات الأجسام" هي مواد بروتينية تتمتع بليونة خاصة، وأنها تستطيع أن تُشكِّلَ نفسَها مثل قالب حول الأجسام الغريبة (مُوَلِّدَات الضّد)، وأنّ كل جسم مُضاد منها يلتوي ويلتف حول مُوَلِّد الضِّد الذي يقابله بحيث يؤدي التفاعل بينهما إلى تدمير الجسم الغريب وتحلله.

صاغ هذه الفكرة تحت اسم "نظرية التَعَلُّم"، أي أنّ الجسم المضاد يتعلَّم شكل مُوَلِّد الضّد الذي يلتقي به بحيث يلتف حوله ويدمره عندما يقابله مرة ثانية. ولكن هذه النظرية لا تفسر قدرة بعض مضادات الأجسام على تدمير أجسام غريبة لمْ تُقابلها مِن قبل! ولا تفسر كيف تميِّز مضادات الأجسام بين خلايا ذات الجسم وغيرها، فلماذا لا تَلتَف حول خلايا جسمنا ذاته وتدمرها أيضاً؟

عالِم مشاكِس

لمْ يقتنع عالِم دنماركي مشاكِس شاب بهذه النظرية. دَرَسَ نيلز ييرنِه Niels Jerne (1911-1994) الفيزياء في بداية تحصيله الجامعي، إلا أنه تحوَّل عنها إلى دراسة الطب، وتخرَّج من جامعة كوبنهاجن سنة 1951 حينما كان في الأربعين من عمره. تنقَّل خلال حياته بين أكثر من عشر جامعات ومراكز علمية، وتزوج ثلاث مرات، وخانَهنَّ جميعاً، ولجأتْ إحداهن إلى الانتحار!

العالِم الدنماركي نيلز ييرنِه Niels Jerne (1911-1994). حصل على جائزة نوبل سنة 1982 تقديراً لنظرياته الجريئة في فهم المَناعة والتفاعل المناعي

 

يبدو أنه وَجَدَ في العمل خَلاصاً من كل هذه المتاعب العائلية والشعور بالذنب، فانغمس في البحث عن فهمٍ أفضل لطريقة عمل مضادات الأجسام غير تَعَلُّمَها الالتفاف حول أضدادها. بعد أكثر من تسع سنوات على انتحار زوجته، وبينما كان يقود دراجته ذات يوم، هبط عليه الوحي فجأة وجاءه الإلهام بعد تفكير طويل.

راوَدتْه فكرة جديدة ولكنها غريبة وشاذة حسب مفاهيم تلك الفترة في دراسة المَناعة، فقد تصوَّر أنه ربما توجَد أشكال كثيرة من مضادات الأجسام في الدم أصلاً، وعندما تلتقي مع أجسام غريبة عن ذات الجسم الذي توجَد فيه، فإنها تتفاعل انتقائياً مع أضدادها الخاصة.

أي أنّ مضادات الأجسام توجَد مُسبَقاً بأشكال والتواءات عديدة مختلفة، وأنها تتفاعل مع الأجسام الغريبة التي تتوافق وتتكامل مع شكلها الخاص والتواءاتها المتميزة. وافترَض أنه لا بد مِنْ أنْ يكون عدد وتنوع أشكال مضادات الأجسام الموجودة سلَفاً في الدم كبيراً ومتنوعاً جداً بحيث تستطيع الالتصاق والتفاعل مع العدد الكبير من الجراثيم والأجسام الغريبة التي يمكن أنْ تدخل إلى الجسم. سَخِر مكتشِف الحمض النووي DNA العالِم جيمس واطسن مِن هذه الفكرة، كما رَفَضَها أيضاً العالِم الكبير لاينوس بولينغ. وعلى الرغم من عدم قبول هؤلاء العلماء الكبار لفكرته، إلا أنّ ذلك لمْ يَمنع نيلز ييرنِه من متابعة أبحاثه، خاصة لأنه لقي تأييداً فورياً مِنَ العالِم بورنِت الذي سرعان ما أدرك أنّ هذه الفكرة الجريئة يمكن أنْ تفسِّر كثيراً من المظاهر والتفاعلات المَنَاعية، فتَلَقَّفَ الفكرة، وأَجرَى عليها تطويراً مهماً هو نقل التركيز في التنوع الكبير مِنْ مضادات الأجسام إلى خلايا المَناعة التي تَصنع هذه البروتينات.

نظرية الاستنساخ الانتقائي

افترَضَ بورنِت أنّ كلّ خلية من خلايا المَناعة التي تَصنع مضادات الأجسام تُنتِج نوعاً واحداً من هذه المواد يَتميَّز بتركيبٍ وشكلٍ خاص يختلف عن كل مضاد جسم آخر تُنتِجه بقية خلايا المَناعة. كما افترَضَ أنّ خلايا المَناعة الموجودة في أجسامنا تستطيع أنْ تُنتِج أكثر من عشرة بلايين جسماً مضاداً مختلفاً في تركيبه وشكله، وهكذا عندما يَدخل جسم أجنبي، أو جرثومة، أو مادة غريبة إلى جسمنا، فلا بد مِنْ وجود خلية واحدة على الأقل تستطيع صُنعَ جسمٍ مضادٍ مناسب لهذه المادة الغريبة بحيث يتوافق مع تركيبها وشكلها، فيَلتصق بها ويَتفاعل معها ويُدمِّرها.

عندما تلتقي هذه الخلية المَنَاعية بالمادة الغريبة التي تَتفاعل معها، يؤدي ذلك إلى تنشيط استنساخِها وتكاثرها بحيث تُنتِج كميات كبيرة من مضاد الجسم النوعي اللازم. أَطلَق بورنِت على هذه النظرية الجديدة في المَناعة اسم نظرية الاستنساخ الانتقائي Clonal selection Theory وشَرَحَها سنة 1957 في مقالة علمية هامة تحت عنوان: "تطويرٌ في نظرية ييرنِه عن انتاج مضادات الأجسام باستخدام مبدأ الاستنساخ الانتقائي".

بمناسبة مرور خمسين عاماً على نَشر هذه المقالة المهمة، نَشَرَتْ المجلة العلمية المرموقة Nature عدداً خاصاً، ووضَعَتْ صورة بورنِت على غلافه.

العدد الخاص من مجلة Nature بمناسبة مرور خمسين عاماً على نَشر نظرية الاستنساخ الانتقائي التي وضَعها بورنِت

رفض شامل

وكما هو متوقَّع، لمْ يتَقبَّل العلماء هذه النظرية بسهولة، فقد بَدَى لهم للوهلة الأولى وكأنما هناك تبذيرٌ كبير وسوء استخدام للطاقة الحيوية، فلماذا تَصنَع خلايا المَناعة عدداً هائلاً من مضادات الأجسام لِعدد هائل من المواد الغريبة التي قد لا تُقابلها وقد لا تحتاج إليها أبداً؟! إلا أنّ هذه النظرية بَدَتْ للعالِم بورنِت منطقية وتنسَجم جيداً مع نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي.

فكما أنّ أنواعاً كثيرة ومتنوعة من النباتات والحيوانات يمكن أنْ تَنشأ في الطبيعة، ثم يتم انتقاء أكثرها تلاؤماً مع البيئة لكي يتكاثر ويَنتشر أكثر من غيره، فإنّ خلايا المَناعة التي تستطيع تمييز وتدمير الأجسام والمواد الغريبة التي تجد طريقها إلى الجسم هي الخلايا التي تتكاثر ويتم استنساخها لكي تُنتِج مضادات الأجسام النوعية اللازمة للدفاع عن الجسم.

وقد حَدَثَ للعالِم بورنِت سنة 1956 مثلما حَدَثَ للعالِم داروين سنة 1858 عندما استَلَمَ مقالةً مِنْ عالِم الأحياء البريطاني ألفرد رسل والاس Alfred Russel Wallace (1823-1913) طَرَحَ فيها أفكاره عن تطور الأنواع والانتقاء الطبيعي قُبيل أنْ يَنشر داروين كتابه الشهير عن أصل الأنواع سنة 1859.

ففي حادثة تاريخية مماثلة، استَلَمَ بورنِت أيضاً سنة 1956 مقالة مِن عالِم الأحياء الأمريكي دافيد تالميج David Talmage (1919-2014) قَدَّمَ فيها أفكاره التي تشبه تماماً نظرية بورنِت في الاستنساخ الانتقائي لخلايا المَناعة قُبيل نَشر بورنِت لهذه النظرية. وهذه ظاهرة ليست نادرة في تطور العلوم مع انتشار وسائل الاتصال بين العلماء في المراسلات الخاصة والمؤتمرات العامة والمقالات العلمية ... إذ تنمو الأفكار وتتطور وتتوالد، ويَتشكل تدريجياً مناخ عام، يُنتِج في النهاية نظرية جديدة تبدو عبقرية خلاّقَة. فلا تَظهَر النظريات العلمية الجديدة عادة مِنْ فراغ، بل تنمو وتتطور تدريجياً، ويُضيف العلماء جهود بعضهم إلى بعض، وتتوالد أفكارهم وتتطور في جو عام، حتى نكاد نؤمن أنه إذا لمْ يتوصل أحد العلماء إلى نظرية ما، فسيتوصل إليها آخرون عاجلاً أو آجلاً.

رفضٌ يَتحول إلى تأييد

تقدَّم باحثٌ نمساوي شاب كان قد بدأ العمل في مؤسسة هول للبحث الطبي في استراليا من العالِم الكبير بورنِت وتجرأ على أنْ يقول له بتحدٍ وثقة: "أستطيع إثبات خطأ نظريتك المجنونة عن الاستنساخ الإنتقائي في خلايا المناعة بسهولة إذا أظهرتُ أنّ خلية مناعية واحدة يمكن أنْ تُنتِج أكثر مِنْ نوع واحد مِنَ مضادات الأجسام". ولدهشته، لمْ يَغضب بورنِت، بل شَجَّعَه على فِعل ذلك.

انطلَقَ غوستاف نوسال Gustav Nossal (1931) في أبحاثه التجريبية لإثبات خطأ نظرية بورنِت في الاستنساخ الانتقائي لخلايا المَناعة. حقن نوسال بعض الجرذان بنوعين مختلفين من الجراثيم، ثم استخلَصَ مِن دمها نوعَين مِن خلايا المَناعة، وراقبَ ما سيحدث عند مزج كل نوع مِن خلايا المَناعة مع كل نوع مِن الجراثيم التي استخدَمَها. كان يريد إثبات أنَّ أي نوع من خلايا المَناعة يستطيع قتل أي نوع من الجراثيم التي تَعَرَّفَتْ عليها في أجسام الجرذان.

ولكنه دُهِشَ عندما شاهد بالفعل أنّ كل نوع من أنواع خلايا المَناعة التي استخلَصَها لمْ يستطع أنْ يقتل سوى نوعاً واحداً من الجراثيم! أي أنّ النوع الواحد من خلايا المَناعة لمْ يستطع أنْ يُنتِج سوى نوعاً واحداً من مضادات الأجسام! وهكذا فقد أَثبتَ صحة نظرية بورنِت بينما كان يحاول إثبات خطئها! أصبح نوسال صديقاً مقرباً من بورنِت، وقاما بأبحاث ودراسات مهمة في دراسة المَناعة. وعندما تقاعد بورنِت من رئاسة مؤسسة هول للبحث الطبي سنة 1965، رشَّحَ نوسال لرئاستها حين لمْ يكن عمره قد بلغ الخامسة والثلاثين. شَغَلَ نوسال هذا المنصب الإداري الرفيع حتى تقاعد سنة 1996.  

 

المصدر:

كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني

آخر تعديل بتاريخ
03 مايو 2023
Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.