بدراسة المادة الوراثية عند الإنسان في أنحاء مختلفة من العالَم، يعتقد العلماء أنّ أصولنا القديمة الأولى وُجِدَتْ أولاً في أفريقيا، ثم حَدَثتْ هجرات متتالية منها إلى بقية أنحاء العالَم. استطاع العلماء تقدير ذلك عن طريق دراسة المُوَرِّثات الموجودة على صبغِّي الذكورة الذي يُرمَز له بالحرف Y، وكذلك بدراسة الحموض النووية الموجودة في مُوَلِّدات الطاقة، التي تُسَمى علمياً: "المُتَقَدِّرات Mitochondria". تَرجع أصول صبغِّي الذكورة حصراً إلى الآباء، بينما ترجع أصول مُوَلِّدات الطاقة حصراً إلى الأمهات.
عن طريق دراسة تنوع المُوَرِّثات الموجودة في صبغِّي الذكورة والحمض النووي في مُوَلِّدات الطاقة، توصَّل العلماء إلى الاستنتاج بأن جميع أفراد النوع البشري قد عاشوا في أفريقيا منذ حوالي 200،000 سنة. ويبدو أنّ أجدادنا قد هاجروا من أفريقيا منذ حوالي 100،000 سنة، وأنهم قد وصَلوا إلى أوروبا منذ حوالي 50،000 سنة، ودَخَلوا شمال الأمريكيتَين عن طريق آسيا منذ حوالي 20،000 سنة.
الهجرات والجراثيم
قابَلَ المهاجرون الأوائل من البشر إلى المناطق المختلفة على سطح الكرة الأرضية أنواعاً مختلفة من الجراثيم والأمراض، وتَنوعاً في الغذاء والظروف المناخية، وربما تزاوجوا مع أنواع سابقة من "أشباه البشر" كانت موجودة في بعض تلك المناطق، مثل إنسان النياندرثال الذي كان في أوروبا قبل وصول الإنسان الحديث إليها.
وعلى مَرِّ القرون، نَتَجَ عن كل ذلك تزايد وجود زُمَر مَناعيّة معيَّنة في المناطق المختلِفة من العالَم. وهي بالذات تلك الزُمَر التي تَمنح حاملها وقاية أو حماية أو مقاوَمة طبيعية ضد الجراثيم والأمراض التي يَكثر وجودها في المنطقة التي هاجروا إليها.
حدث مثل ذلك في انتشار وجود زُمَر مَناعية معيَّنة في المناطق التي تَكثر فيها الملاريا. وكلما زادت العزلة الجغرافية لمجموعة محددَّة من البشر، تَقارَبتْ وتَشابَهت الزُمَر المَنَاعية التي يحملها أفرادها. فقد لوحظ مثلاً كثرة وجود الزُمرة المَنَاعية HLA-B48 لدى الإسكيمو وهنود أمريكا الشمالية، بينما يَندر وجود هذه الزُمرة لدى بقية سكان العالَم.
لاحَظ العلماء أيضاً كثرة وجود مجموعات معيَّنة من الزُمَر المَنَاعية في مناطق جغرافية محددَّة. فقد لاحظوا مثلاً كثرة تَواجد الزُمرة HLA-A01 مع الزُمرة HLA-B08، وتَواجد الزُمرة HLA-A03 مع الزُمرة HLA-B07 في العرق الأبيض من البشر. ويبدو أنّ خريطة تَوَزُّع الزُمَر المَنَاعية في العالَم هي نتيجة التزاوج، ونتيجة لصراعنا مع الجراثيم والأمراض المختلفة في أنحاء العالَم، وأنّ إرثنا الجغرافي-الحيوي يرتبط بمدى استعدادنا أو مقاومتنا للأمراض، واستجابتنا لبعض الأدوية والعقاقير. بل ولاحظ العلماء أيضاً اختلاف نجاح لقاحات ضد بعض الجراثيم والفيروسات بحسب الزُمَر الوراثية التي يحملها كل منا.
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني