في شهر مارس سنة 1953، فاجأ الشابان فرانسيس كريك وجيمس واطسن العالَم بنجاحهما في صنع نموذج صحيح يبيّن التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA في مختبر جامعة كامبردج، وسبقا بذلك كثيراً من علماء الكيمياء والفيزياء الحيوية وعلماء الأحياء والوراثة في العالَم. لمْ يأت نجاحهما من فراغ، فقد كانت له قصة طويلة متشعبة ومتشابكة من العمل الدؤوب، والتعاون المشترك، وخيبات الأمل، والمصادفات السعيدة، والتنافس المحموم بين العلماء. تُوِّج نجاحهما بالحصول على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1962 بالمشاركة مع موريس ويلكينز صديقهما في الكلية الملكية.
فرانسيس كريك
ولِد فرانسيس هاري كومبتون كريك Francis Harry Compton Crick (1916-2004) في قرية صغيرة قرب مدينة نورثامبتون الإنكليزية. وكان والده صانع أحذية، إلا أنّ الشاب فرانسيس كان محباً للعلوم منذ صغره. وفاز بجائزة مدرسية في الكيمياء عندما كان في السابعة عشرة من عمره، كما حصل على شهادته الجامعية في الفيزياء من جامعة لندن سنة 1937.
بدأ كريك التحضير لنيل شهادة الدكتوراه في الفيزياء بجامعة لندن لدراسة لزوجة الماء في درجات الحرارة المرتفعة، وكان يَعتبر تلك الدراسة مملّة، ولذا فقد كان سروره عظيماً عندما سقطتْ قنبلة على مختبره ودمَّرتْ أجهزته أثناء الحرب العالمية الثانية، فانتقل إلى المشاركة آنذاك في تصميم الألغام البحرية.
عاد بعد الحرب إلى دراسة عِلم الأحياء وتطوير عِلم الفيزياء الحيوية مثل كثير مِنَ الفيزيائيين في ذلك الوقت. كتب عن ذلك التحول في اهتماماته قائلاً: " كان عليّ التحول مِنْ دراسة الفيزياء بأناقتها وبساطتها العميقة إلى دراسة آليات الكيمياء الحيوية المفصَّلة الدقيقة التي تَطورتْ عبر بلايين السنين. وكأنما كان على المرء أنْ يولَد من جديد". ولكنّ كريك شعر أنّ دراسته للفيزياء شجَّعته على أنْ يكون أكثر جرأة من علماء الأحياء في طرح أفكار جديدة ربما بسبب النجاحات العلمية الباهرة التي قدَّمتها الفيزياء في فهم العالَم والكون.
حاول كريك الانضمام إلى صديقه ويلكينز في مختبرات الكلية الملكية، ولكن مديرها السير جون راندال لمْ يقبله، فانضم إلى مختبرات جامعة كامبردج تحت إدارة السير لورنس براغ. كان السير براغ قد فاز بجائزة نوبل في الفيزياء سنة 1915 تقديراً لدراساته في تصوير انحراف الأشعة السينية عن البلّورات، ولمْ يكن عمره وقتها سوى خمس وعشرين سنة. في أواخر الأربعينيات كان السير براغ في تنافس شديد مع العالِم الأمريكي الشهير بولينغ للتوصل إلى تركيب البروتينات، وكان بولينغ قد سبقه في وصف الشكل اللولبي لبعض البروتينات سنة 1951.
كما كان براغ في تنافس أيضاً مع فريق السير راندال مدير مختبرات الفيزياء الحيوية في الكلية الملكية للتوصل إلى تركيب الحمض النووي DNA. كُلِّفَ كريك أولاً بدراسة تركيب جزئيات البروتينات بطريقة تصوير انحراف الأشعة السينية عليها، وعايَشَ في تلك الفترة مشاعر الإحباط والفشل التي سادتْ مختبرهم في جامعة كامبردج عندما سبقهم بولينغ إلى معرفة الشكل اللولبي للبروتينات. وتعلَّم درساً جيداً مِنْ مشاهدة الأخطاء التي ارتكبوها في صنع نماذج البروتينات، وقد استفاد كثيراً مِنْ كل هذه التجارب عندما ركَّز اهتمامه على اكتشاف تركيب الحمض النووي DNA.
جيمس واطسون
أما زميله جيمس ديوي واطسن James Dewey Watson (1928) فقد ولِد في مدينة شيكاغو بأمريكا، وكان طالباً لامعاً ومتميزاً فاستطاع الدخول إلى جامعة شيكاغو حين كان عمره خمس عشرة سنة فقط، وحصل على منحة دراسية. تحول اهتمامه إلى دراسة الوراثة بعدما قرأ كتاب: "ما هي الحياة" للعالِم الفيزيائي الشهير شرودينغر. حصل على شهادته في عِلم الحيوان سنة 1947.
ثم حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة إنديانا الأمريكية، حيث دَرَسَ تحت إشراف عالِم الوراثة الأمريكي هيرمان جوزيف مولر Herman Joseph Muller (1890-1967) الذي حاز على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1946 تقديراً لأبحاثه في حدوث التشوهات الوراثية نتيجة التعرض للإشعاع. كما دَرَسَ هناك أيضاً تحت إشراف عالِم الجراثيم الأمريكي الإيطالي الأصل سالفادور إدوارد لوريا Salvador Edward Luria (1912-1991) الذي حصل أيضاً على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1969 تقديراً لأبحاثه في تكاثر الفيروسات وتركيبها الوراثي.
خلال عامَي 1951-1952، تنقَّل واطسن بين عدة مختبرات في جامعات مختلفة في أمريكا، وكوبنهاجن، وإيطاليا حيث تابع دراساته في الفيروسات والبروتينات والحموض النووية. ازداد اهتمامه في دراسة تركيب الحموض النووية باستخدام طرق تصوير انحراف الأشعة السينية بعد أن استمع إلى محاضرة ألقاها ويلكينز في مؤتمر بإيطاليا سنة 1951 وقدَّم خلالها الصور التي حصل عليها.
ساعده أستاذه لوريا في الحصول على منحة للعمل في مختبرات جامعة كامبردج لتعلّم هذه الأساليب في التصوير والبحث، وهكذا جاء واطسن إلى مختبر السير براغ لدراسة استخدام تصوير انحراف الأشعة السينية في معرفة تركيب خضاب الدم Hemoglobin وأحد بروتينات العضلات Myoglobin. لمْ يكن لديهم مكاتب كافية، فانتهى به الأمر إلى مشاركة فرانسيس كريك في مكتب واحد. مصادفة كانت لها نتائج تاريخية! عندما التقيا في كامبردج كان واطسن في الثالثة والعشرين من عمره، بينما كان كريك قد بلغ الخامسة والثلاثين.
واطسن وكريك في جامعة كامبردج 1952
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني