يمتلك بعض العلماء قدرة فريدة على التوقع والتنبؤ بوجود صفات للمادة أو قوانين معينة في الكون، ونرى ذلك واضحاً بشكل خاص في علوم الفيزياء والكيمياء والفضاء. أذكر الآن مثلاً الجدول الذي وَضَعه الكيميائي الروسي ديمتري مندلييف Dmitri Mendeleev (1834-1907) ووَصَف فيه خواص العناصر في الطبيعة، وتَنبأ بوجود عناصر تم اكتشافها فيما بعد، بل وتَنبأ ببعض صفاتها وخواصها الكيميائية.
وأتذكّر كذلك المقالات العلمية العبقرية الأربع التي نَشرها عالِم الفيزياء النظرية الشهير ألبرت أينشتاين Albert Einstein (1879-1955) خلال سنة 1905 والتي كان لها عظيم الأثر في كثير من الاكتشافات العلمية التي تلتها، مثل الميكانيك الكمّي، وتركيب الذرّات والجزئيات، والنظرية النسبية، ومعادلته الشهيرة عن العلاقة بين المادة والطاقة E=MC2 التي أصبحتْ أساس علوم الطاقة الذرّية.
وهكذا نشأتْ علوم خاصة تبحث في الأسس النظرية التي يمكن أنْ تتنبأ بمثل هذه الأمور في بعض العلوم، مثل الفيزياء النظرية والرياضيات البحتة وعلوم الذرّة والكيمياء النظرية... إلا أنّ التنبؤ النظري في عِلم الأحياء أصعب منالاً، لأنّ عِلم الأحياء مازال عِلماً وَصْفِياً، أي أنه يبحث في وَصف الكائنات الحية وسِماتها، ويحاول أحياناً وضع تصنيفات وتفسيرات تساعد على فهم هذه الملاحظات ومعرفة المظاهر المختلفة في الكائنات الحية الكثيرة التنوع.
فمازالت الكائنات الحية تُذهل العلماء وتُفاجئهم بكثير من الصفات والإمكانيات التي لمْ يكنْ تخيلها ممكناً، مثل البكتيريا القديمة التي تعيش في أعماق تَصِلُ إلى مئات الأمتار تحت سطح الأرض بعيدة عن ضوء الشمس، وتتحَمل درجات من الحرارة أعلى من غليان الماء، وسوياتٍ هائلة من الضغط.
كما اكتشفوا كائنات عجيبة في أعماق المحيطات، وكائنات حية دقيقة تعيش قرب البراكين أو قرب الينابيع الحارة أو في درجات مرتفعة من الحموضة، وكائنات تمتلك قدرات غريبة خارقة على السمع أو الرؤية، أو تَستخدم الأصوات في استكشاف ما حولها مثل الخفافيش والدلافين... ونباتات تعيش دون تربة، وأخرى آكلة للحشرات ... ولمْ يَعهد علماء الأحياء بينهم مَن يستطيع وَضع نظريات تتوقع أو تتنبأ بوجود صفات معينة أو بوجود كائنات حية تتمتع بها وامتيازات خاصة لمْ تُعرف بعد. إلا أنّ فرانسيس كريك كان مِنَ الرواد الذين كانت لديهم الجرأة على التنبؤ في علوم الحياة، وربما يرجع ذلك إلى دراسته الأصلية في علوم الرياضيات والفيزياء.
الشيفرة الوراثية
وهكذا يَفترض كريك في مقالة نشرها سنة 1958 أنّ تسلسل الأسس في الحمض النووي يُحدِّد تسلسل الحموض الأمينية في البروتين الذي يُشرِف ويوجّه ويَضبط صنعه. وهنا يَطرح السؤال نفسه بالاستنتاج المنطقي: كيف يُتَرجَم تسلسل أربعة أُسس في الحموض النووية إلى تسلسل عشرين حمضاً أمينياً في البروتينات؟ أُطلِق على هذه المسألة: مشكلة الترميز أو الشيفرة، والتي لخَّصَها بتساؤل بسيط: كيف يتم نقل هذه المعلومات؟ أَجرى سلسلة من الحسابات الرياضية ودراسة الاحتمالات الممكنة لوضع شيفرة أو ترميز للغة تتألف من أربعة "حروف" بحيث يمكن صنع عشرين "كلمة" صغيرة مختلفة، وتَوصَّل إلى الاستنتاج أنّ أبسط شكل ممكن لهذه "الكلمات" أو "الرموز" هو أنْ يتألف كل منها من ثلاثة "حروف"، وافترض وجود مادة "ناقلة" تتألف من حمض نووي فيه ثلاثة حروف، ويقوم بنقل الأوامر أو ترجمة الشيفرة الوراثية من المادة الوراثية في نواة الخلية DNA، إلى المواضع التي تصنع فيها البروتينات، وتم بالفعل فيما بعد اكتشاف هذا الحمض النووي الناقل.
ولعل أَلطفَ ما ورد في مقالته جاء في ختامها حيث قال: " يجب أنْ أعترف بأنه يصعب الوصول إلى رأي قاطع في هذه الفكرة، فقد تكون محض هراء، أو أنها بالفعل قلبُ المسألة، والزمن هو الحَكَم الوحيد...آمل أنني قد استطعتُ إقناعكم بأنّ صنع البروتينات هو مسألة جوهرية في عِلم الأحياء، وأنه يتعلق بعمل المورثات ... هناك كثير من النشاط لدراسة الموضوع تجريبياً في مجال الوراثة والكيمياء الحيوية، وتُنشَر نتائج جديدة كل بضعة أشهر... ولن أَستغرب اكتشاف معرفة كيفية صنع البروتينات خلال عَقد من الزمان ".
نحو جائزة نوبل
وكما تنبأ كريك، بل خلال أقل مِنْ عَقد مِنَ الزمان، توصَّل العلماء بالفعل إلى اكتشاف الحمض النووي الرايبوزي الناقل Transfer RNA أو tRNA، وكشَفوا الشيفرة الوراثية بكاملها، وعرفوا آلية صنع البروتينات في الخلايا الحية سنة 1966. على الرغم من أنّ كريك وزملاؤه قد تابعوا أبحاثهم التجريبية لكشف هذه الأمور، إلا أنّ شَرَفَ التوصّل إلى هذه الاكتشافات العلمية المهمة لمْ يكنْ مِنْ نصيبه، ولا مِن نصيب زملائه في نادي ربطة العنق RNA في لندن، بل نال هذا الحظ علماء آخرون على الطرف الآخر من المحيط الأطلسي حَصَلوا على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1968، وهم عالِم الكيمياء الحيوية الأمريكي روبرت ويليام هولي Robert William Holley (1922-1993)، وعالِم الأحياء والكيمياء الحيوية والوراثة الأمريكي مارشال وارن نيرنبرغ Marshall Warren Nirenberg (1927-2010)، وعالِم الكيمياء الحيوية الأمريكي من أصل هندي هار غوبيند خورانا Har Gobind Khorana (1922-2011) الذي اكتَشَف أيضاً وجود ترميز معين في تسلسل الحمض النووي RNA يحمل أمر البدء أو التوقف عن صنع سلسة الحموض الأمينية. كما كان أول مَن استطاع تركيب سلسلةٍ مِنَ الحمض النووي في المختبر، وساعد ذلك على تطوير إجراءات كثيرة في الهندسة الوراثية.
روبرت ويليام هولي Robert William Holley (1922-1993) نال جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1968
مارشال وارن نيرنبرغ Marshall Warren Nirenberg (1927-2010) نال جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب 1968
هار غوبيند خورانا Har Gobind Khorana (1922-2011) نال جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1968
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني