في مساء يوم بارد من شهر فبراير 1953، دخل واطسن وكريك إلى مطعم مجاور لكي يستريحا من عمل يوم عظيم. فاجأ كريك الحاضرين بقوله: " لقد اكتشفنا سر الحياة ". لمْ يُعلِّق أحدٌ منهم على ذلك، ولمْ يفهموا تماماً ما الذي يقصده، فتابَعَوا شرابهم وأحاديثهم. في تلك الليلة ذَكَرتْ زوجة كريك أيضاً أنه قال لها متحمساً: " لقد توصَّلنا إلى اكتشافٍ عظيم "، ولمْ تصدقه، بل أجابتْ ضاحكة: " قلتَ لي ذلك مراراً مِنْ قَبل ".
وفي 19 مارس 1953 كَتَب كريك رسالة من سبع صفحات بخط يده إلى ابنه الذي كان يقيم آنذاك في مدرسة داخليّة قائلاً في مطلعها: " عزيزي مايكل، ربما توصلتُ مع جيم واطسن إلى اكتشاف عظيم الأهمية ". وفي سنة 2013 بيعت النسخة الأصلية لهذه الرسالة بأكثر من ستة ملايين دولار، وربما كان ذلك أكبر مبلغ دُفِع ثمناً لرسالة حتى الآن!
طريق لولبية لاكتشاف سر الحياة
لمْ تكن المهمة الأولية التي كُلِّفَ بها واطسن وكريك في مختبرات جامعة كامبردج هي دراسة تركيب الحمض النووي DNA، ولكنْ جمَع بينهما الاهتمام الشخصي بذلك الموضوع. في تلك الفترة كان هنالك اختلافٌ كبير في وجهات النظر بين علماء الأحياء والوراثة حول طبيعة وتركيب المادة التي تنقل الصفات الوراثية بين الأجيال المتتالية. كان مِنَ المتفق عليه أنّ للصبغيات الموجودة في نواة الخليّة الحيّة دوراً أساسياً في الوراثة، ولكنّ الصبغيات تحتوي على بروتينات وعلى حموض نووية، فأيّ منهما هو ناقل الوراثة؟
كان مِنَ المعروف آنذاك أنّ البروتينات تتألف مِنْ سلاسل طويلة مِنْ وحدات صغيرة تسمى الحموض الأمينية. وهناك حوالي عشرين مِنْ هذه الحموض المختلفة. هذا التركيب المعقد للبروتينات يُرجِّح الدور الذي يمكن أنْ تلعبه في نقل الصفات الوراثية المعقدة والكثيرة والمختلفة.
ولكنّ مؤيدي البروتينات في نقل الصفات الوراثية كانت أمامهم مشكلة كبيرة وهي أنّ جزيئات البروتينات مستقرة التركيب لا تتضاعف ولا تتكاثر، ولمْ يعرف العلماء آنذاك كيفية صنع البروتينات في الخليّة الحيّة، ولمْ تكن لدى العلماء أي تجربة توضح تكاثر البروتينات أو تضاعفها، فهي مواد مناسبة لتشكيل البُنية الأساسية للخليّة الحية، أي أنها مناسبة كمواد بناء وليس كمواد تكاثر.
أما الحموض النووية فهي بسيطة التركيب، إذ تتألف مِنْ سكر خماسي وفوسفات وأربع أو خمس وحدات أساسية فقط. أي أننا إذا شبَّهنا تركيب هذه المواد العضوية باللغات البَشَرية، فيمكننا القول إنّ البروتينات هي كلمات وجُمل مكتوبة بلغة أبجدية تتألف من عشرين حَرفاً، بينما تتألف لغة الحموض النووية من أربعة أو خمسة حروف فقط، فهل تكفي أربعة حروف أو خمسة للتعبير عن الصفات الوراثية الكثيرة والمختلفة في الكائنات الحيّة؟!
الشكل اللولبي
خلال سنة 1952، تابَع واطسن دراسة تركيب بروتين العضلات وقراءة كثير من الأبحاث عن تركيب الحموض النووية، كما تابَع كريك كتابة اطروحته في دراسة تركيب خضاب الدم لنيل شهادة الدكتوراه، بينما قام ويلكينز في مختبر الكلية الملكية بتحضير عيّنات جديدة من الحمض النووي حصل عليها من نطاف حيوانية، وقام بتصوير انحراف الأشعة السينية عنها. رجَّحتْ هذه الصور الجديدة وجود شكل لولبي منتظم في تركيب الحمض النووي DNA.
وعندما قدَّم الأمريكي بولينغ نموذجه عن التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA بشكل لولب ثلاثي منتظم في فبراير 1953، كلَّفَ السير براغ رسمياً واطسن وكريك بمحاولة صنع نموذج التركيب الكيميائي لهذا الحمض النووي. فقد عرف أنّ بولينغ سرعان ما سيكتشف خطأه في الظن بوجود لولب ثلاثي بدلاً من ثنائي إذا شاهد الصور الجديدة، وخشي أنْ يسبقه بولينغ مِنْ جديد كما سبقه قبلها بسنتَين إلى كشف التركيب اللولبي في البروتينات.
محاولة أخرى جديدة
بدأ واطسن وكريك العمل مرة ثانية في صنع نموذج التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA في فبراير 1953 مستفيدين من المعلومات الجديدة التي حصلا عليها عن نتائج أبحاث الكلية الملكية. أدرك واطسن وكريك مبكراً أنّ معرفة تفاصيل التركيب الكيميائي للمورثات كانت مهمةً جوهرية في عِلم الأحياء، فبدون هذه المعرفة لا يمكن فهم وتفسير الوراثة والتكاثر.
فتركز اهتمامهما على اكتشاف وفهم هذه المعضلة. واقتضى ذلك انغماسهما في دراسة جوانب عديدة من العلوم: الوراثة، والكيمياء الحيوية، والفيزياء الحيوية، ودراسة البلّورات وتركيب الجزئيات بتصوير انحراف الأشعة السينية، مع متابعة نتائج التجارب العملية لعلماء آخرين في دراسة الحموض النووية.
كما استفادا من دراستهما العلمية السابقة في الفيزياء والميكانيك الكَمِّي (كريك) وفي عِلم الوراثة والتكاثر في الفيروسات والجراثيم (واطسن)، هذا بالإضافة إلى حدسهما العلمي المرهف، وصبرهما وإصرارهما على المتابعة رغم الانتقادات والتهكمات. وبشيء من الحظ والمصادفات السعيدة، توصَّل واطسن وكريك إلى معرفة التركيب الكيميائي الخاص للحمض النووي DNA الذي يتمتع بدرجة كافية من التعقيد مع البساطة والأناقة لكي يكون المادة الرئيسة في توجيه تكاثر الكائنات الحيّة ونقل صفاتها الوراثية.
رسم توضيحي لتركيب الحمض النووي DNA بشكل لولب ثنائي منتظم
واطسون وكريك يصنعان نموذج الحمض النووي DNA سنة 1953
نموذج لولبي ناجح
انتهى واطسن وكريك من صنع نموذج الحمض النووي DNA في 7 مارس 1953، وعندما شاهد كريك نموذج الحمض النووي ماثلاً أمامه، أَدرك فوراً معنى الترابط المزدوج المتسلسل للمواد الأساسية فيه، وأنه يدل على وجود إمكانية صنع نسخ متتالية لهذا المُرَكَّب في الخلايا، بحيث أنه عند انفصال شريطَي هذا الحمض النووي يمكن أنْ يكون كل منهما قالباً لصنع نسخة جديدة مماثلة، مثلما يحدث أثناء انقسام الخليّة الحيّة.
وربما تَنبَّه كريك إلى ذلك بسبب اهتمامه الخاص بالميكانيك الكَمِّي، وربما تذكَّر واطسن أيضاً قراءته القديمة لكتاب " ما هي الحياة " الذي تَنَبأ فيه شرودينغر بوجود مادة ما في الكائنات الحيّة تحمل الصفات الوراثية في تركيبها الكيميائي الخاص، وتنتقل صفات الكائن الحيّ إلى الأجيال التالية بشكل معلومات أو أوامر وراثية مختصرة في روابط ذلك التركيب الكيميائي المميّز!
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني