انطلق الفلاح إد كارلسون Ed Carlson مسرعاً في سيارته العتيقة ذات يوم شتائي عاصف وقطع مسافة أكثر مِنْ 200 ميل عبر ولاية ويسكونسين الأمريكية في سيارته الشاحنة الصغيرة بعد أنْ وضع فيها بقرة ميتة أخرى مِنْ أبقاره الثمينة وقد بلغ به الغضب أقصاه. فقد خسر أكثر أبقاره وثيرانه بسبب مرض غامض انتشر في ماشيته التي نفقتْ واحدة تلو الأخرى في نزف مميت.
وصل إلى مركز الأبحاث الزراعية لولاية ويسكونسين واتجه مباشرة إلى أول مكتب صادفه في طريقه وكان مكتب كارل لينك Karl Link (1901-1978)، الذي كان يعمل في ذلك المركز بعد أنْ حصل على شهادة الكتوراة في الكيمياء النباتية مِنْ جامعة ويسكونسين في أمريكا، وتابع دراساته في مراكز أوروبية شهيرة في هذا المجال. وضع الفلاح أمام لينك دلواً مملوءاً بدم كان قد نزف ِمْن بقرته، وطلب منه حلاً عاجلاً لهذا النزف القاتل الذي فَتَكَ بماشيته.
كان لينك يعلم سبب حدوث هذا المرض النزفي لدى الماشية، لأن وباءً مماثلاً كان قد انتشر في أمريكا قبل ذلك بحوالي عشر سنوات أثناء الكساد الكبير الذي أصاب أمريكا سنة 1929 وأدى إلى القضاء على كثير من الماشية بسبب النزيف. عُرف آنذاك أنّ هذا النزيف القاتل قد حدث بسبب إطعام قطعان الماشية علفاً متعفناً مِنَ البرسيم الحلو الذي اضطر الفلاحون لاستخدامه بسبب الضائقة الاقتصادية العامة وعدم توفر العلف الجيد.
تَعفَّنَ البرسيم الحلو في المناطق الدافئة والرطبة بسبب إصابته بفطور ضارة، وأدى تناوله إلى مرض النزف القاتل في الماشية. أُطلق اسم: "مرض البرسيم الحلو" على هذا الوباء آنذاك، ولم يكن له علاج سوى نُصح الفلاحين بعدم إطعام ماشيتهم هذا العلف المتعفّن، أو بنقل دم طازج إلى الماشية المصابة. اكتشف الطبيب البيطري الأمريكي لي مايلز روديريك Lee Miles Roderick (1888-1960) سنة 1929 العلاقة بين مرض البرسيم الحلو واضطراب تخثر الدم، ولكنه لم يستطع أنْ يحدد العامل المُمرض.
البحث عن سبب مرض نزف الماشية
قرر لينك وزملاؤه البحث عن سبب المرض في البرسيم المتعفّن وفي دم البقرة الميتة. وبعد ستّ سنين مِنَ العمل الدؤوب والبحث المستمر تمكنوا مِنَ الحصول على المادة التي سَبَّبتْ مرض نزف الماشية، وكانت المادة هي الدايكومارول Dicoumarol التي تتشكل في البرسيم المتعفّن، وتَمنع صُنع بعض عوامل تخثر الدم مِنْ خلال تعطيلها لعمل الفيتامين ك، وعندما تتناولها الماشية في البرسيم المتعفّن، تؤدي إلى زيادة سيولة الدم وحدوث النزف المميت خلال أسبوعين أو ثلاثة. تم تحضير هذه المادة بشكل كيميائي نقي بعد أنْ حصل لينك وزملاؤه على منحة مالية مِنْ مؤسسة خريجي جامعة ويسكونسين للبحث العلمي (وارف WARF)، وتقديراً لتلك المنحة المالية الهامة فقد أطلق اسم وارفارين Warfarin على هذه المادة.
هل يمكن الاستفادة من الوارفرين؟
بينما كان لينك يمضي فترة النقاهة مِنْ التهاب رئوي أصابه سنة 1945، خطرتْ له فكرة استخدام الوارفارين كمادة سامة للقضاء على الفئران والجرذان بوضعها في الطعم بحيث تسبب النزف القاتل فيها. وبالفعل طُرحتْ هذه المادة في الأسواق كمادة قاتلة للفئران والجرذان سنة 1948 .
كارل لينك Karl Link (1901-1978) مكتشف الوارفارين 1941
مِنْ سُمّ الفئران، إلى علاج الأمراض
بعد أنْ نجح استعمال الوارفارين كمادة قاتلة للقوارض، استُخدمتْ هذه المادة كدواء مضاد لتخثر الدم في بعض الأمراض التي تترافق بزيادة تجلط الدم، مثل الخثرات الوريدية والرئوية والجلطة القلبية والدماغية. وفي سنة 1955 أُعطي دواء الوارفارين للرئيس الأمريكي أيزنهاور بعد إصابته بجلطة قلبية، وقال بعض الأطباء آنذاك أنّ: " ما يفيد بطلاً عسكرياً ورئيساً لأمريك، يمكن أنْ يفيد كل الآخرين ولو كان ذلك سم الفئران ".
كارل لينك Karl Link (1901-1978) في دعاية لاستخدام الوارفارين لقتل الجرذان 1948
الوارفارين كدواء
امتاز دواء الوارفارين بأنه دواء يمكن أن يؤخذ بشكل حبوب عن طريق الفم، بينما لا يمكن أخذ دواء الهيبارين الذي يزيد سيولة الدم أيضاً إلا عن طريق الحقن. كما أنّ الوارفارين بطيئ التأثير إذ يحتاج إلى يومين أو ثلاثة لكي يبدأ فاعليته في منع تخثر الدم، ويمكن أنْ تمتد فاعليته إلى يومين أو ثلاثة، في حين أنّ الهيبارين فوري التأثير، ولا تمتد فاعليته أكثر مِنْ ساعات.
كما اكتُشف أن تأثير الوارفارين في زيادة سيولة الدم يمكن معادلته بإعطاء الفيتامين ك، في حين لم يكن هناك مضاد جيد للهيبارين آنذاك قبل اكتشاف دواء البروتامين الذي يعدل فاعلية الهيبارين. ولكن عند استعمال الوارفرين دوائياً ظهرتْ مشكلة قياس وضبط فاعلية الوارفارين لسيولة الدم، وصعوبة تحديد الجرعة المناسبة للمريض بحيث يمنع تخثر الدم دون أنْ يُسبب النزف. استمرتْ هذه المشكلة دون حل واضح حتى عام 1982 عندما تم الاتفاق في منظمة الصحة العالمية على استخدام قياس مخبري ثابت هو INR في معايرة سيولة الدم، وتم تطبيق هذا القياس عالمياً، وانتشر استعمال هذا الدواء في علاج كثير مِنَ الأمراض التي يحتاج فيها المريض إلى زيادة سيولة الدم، وأصبح دواء الوارفارين مِنْ أكثر الأدوية استعمالاً في كافة أرجاء العالم.
المصدر:
كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني