عاد العالِم فليمنغ مساء يوم 3 سبتمبر سنة 1928 إلى مختبره بعد إجازة قضاها مع عائلته، ليتابِع دراساته عن النشاط الحيوي لجرثومة قوية تُسَبِّب كثيراً من الالتهابات القاتلة، تُسمى المُكَوَّرات العنقودية Staphylococcus. كان فليمنغ مشهوراً بأنه باحثٌ لامع بسبب اكتشافاته السابقة في عِلم الجراثيم، إلا أنّ مختبره كان دائماً بحالة فوضى شاملة وغير مُرَتَّب.
قبل ذهابه في الإجازة، حاول فليمنغ ترتيب مختبره قليلاً، ووضَعَ بعض الأطباق التي تحتوي مزارع الجراثيم فوق بعضها في أحد جوانب المختبر. وعند عودته لاحَظَ أنّ أحد هذه الأطباق قد تَلَوَّثَ بنموٍ غريبٍ لنوع من الفطريات، وأنّ جراثيم المُكَوَّرات العنقودية قد اختَفتْ تماماً في المنطقة التي تُحيط بهذا الفطر. تذكَّرَ فليمنغ أنه كان قد لاحَظَ ظاهرةً مماثلة قبل ذلك بحوالي خمس سنوات عندما اكتَشَف وجود مادة قاتلة للجراثيم في دمع العين. عَزَلَ فليمنغ الفطر الغريب، واستَنبَتَه لوحده في مزرعة خاصة بالفطريات. وبعد حوالي سنة من الفحص والدراسة، اكتَشَف أنّ هذا الفطر هو من جنس فطريات البنسليوم Penicillium، وأنه يُفرز بالفعل مادة قاتلة للجراثيم أَطلَق عليها اسم البنسلين.
اختبارات فاعلية البنسلين ضد الجراثيم
اختَبَر فليمنغ فاعلية هذه المادة الجديدة ضد بعض الجراثيم التي تُسبب أمراضاً التهابية، ووجَدَ أنها تستطيع قتل الجراثيم التي تُسبب بعض الأمراض القاتلة، مثل الحمى القرمزية، والتهاب الرئة، والتهاب السَّحَايا (الأغشية حول الدماغ)، والدِّفْتِريا (الخُنَّاق)، ومرض السَيَلان.
كما وجَدَ أنها لا تؤثر على بعض الجراثيم الأخرى مثل جراثيم التيفوئيد والسل. نَشَر فليمنغ نتائج أبحاثه سنة 1929، إلا أنها لمْ تَلق اهتماماً يُذكَر. تابَع أبحاثه لوحده، ووجَدَ أنّ زَرْعَ (استِنْبات) هذا الفطر صعب، وأنّ تَنقية مادة البنسلين التي يُفرزها أكثر صعوبة، وأنّ الحصول على كميات كافية منه لعلاج المصابين بهذه الأمراض يكاد يكون مستحيلاً في ذلك الوقت.
شَعَرَ فليمنغ باليأس، وعلى الرغم من أنه تابَعَ أبحاثه عن البنسلين أكثر من عشر سنوات، إلا أنه توصَّلَ سنة 1940 إلى قرار التَّخَلي عن متابعة هذه الأبحاث. ولكن لحسن الحظ، فقد تابَعَ علماء آخرون في جامعة أوكسفورد دراسَة البنسلين، وتوصَّلوا إلى طرق ناجحة في زراعة فطر البنسليوم وتَنقية البنسلين، ونَجَحوا في الحصول على كميات جيدة من البنسلين النقي.
متابعات مفيدة ناجحة
نَشِط العالِم الأسترالي البارون هوارد فلوري Howard Florey (1898-1968) والكيميائي الألماني السير إرنست بوريس تشاين Ernst Boris Chain (1906-1979) في متابعة دراسة البنسلين بعد دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، وما إن جاء يوم غزو النورماندي لتحرير فرنسا من الاحتلال الألماني سنة 1944 حتى كان البنسلين متوفراً بكميات كافية لعلاج جميع الجرحى في جيوش الحلفاء.
يُقَدِّر العلماء أنّ أكثر من 80 مليون إنسان في كافة أنحاء العالم قد تمّ إنقاذهم من الموت بفضل البنسلين. أما قبل ذلك فقد كانت الالتهابات الجرثومية تفتك بالبشر والحيوانات دون أن يكون لدى الأطباء كثير من الأدوية الفعالة ضدها. وكان الجنود يُقتَلون في المعارك الحربية ليس بسبب جروحهم وإصاباتهم، بل بسبب الالتهابات الجرثومية التي كانت تقضي عليهم. كان للبنسلين فِعل السحر في القضاء على الجراثيم.
في حفل تكريمٍ للبارون فلوري، قال رئيس وزراء استراليا: "من ناحية الصحة العالمية، كان فلوري أهم الرجال الذين ولدوا في استراليا". وهكذا، تقديراً لجهودهم المُهمة في اكتشاف البنسلين، لمْ يَستغرِب أحد مَنْحَ جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1945 إلى فليمنغ، وفلوري، وتشاين. وتُعتَبر مصادفة اكتشاف البنسلين التي انتَبَه إليها فليمنغ في سبتمبر 1928 بداية ثورة علمية جديدة في استخدام المضادات الحيوية لعلاج الالتهابات الجرثومية. وفي أواخر سنة 1999 اعتَبَرَت مجلة التايم الشهيرة أنّ فليمنغ هو مِن أهم مائة شخصية عاشَتْ في القرن العشرين. كما أَجمَعَتْ ثلاث مجلات سويدية علمية مهمة على أنّ اكتشاف البنسلين هو أهم اكتشاف علمي في القرن العشرين.
العالِم الاسكتلندي ألكسَندر فليمنغ Alexander Fleming (1881-1955). اكتَشَف البنسلين، أول المضادات الحيوية، سنة 1928 وحصل على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1945
العالِم الأسترالي البارون هوارد فلوري Howard Florey (1898-1968). ساهَم في تنقية وإنتاج البنسلين، ونال جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1945
الكيميائي الألماني السير إرنست بوريس تشاين Ernst Boris Chain (1906-1979). ساهَم في تنقية وإنتاج البنسلين، ونال جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1945
المصدر:
كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني