صحــــتك

اختلاف العلماء في كشف بنية المادة الوراثية

الحمض النووي
التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA الذي يكون المادة الوراثية في الصبغيات داخل نواة الخلية

كان السباق نحو تركيب الحمض النووي DNA محموماً بشكل خاص بين بولينغ في مركز كاليفورنيا للدراسات والأبحاث Caltech  بأمريكا، ومختبر السير لورنس براغ Sir Lawrence Bragg (1890-1971) في جامعة كامبردج بإنكلترا، ومختبرات الأبحاث الطبية في الكلية الملكية بلندن حيث كانت تعمل الباحثة روزاليند فرانكلين Rosalind Franklin تحت إشراف العالِم السير جون راندال John Randall (1905-1984).

كان العالِم الإيرلندي الأصل المولود في نيوزيلندا موريس هيو فريديريك ويلكينز Maurice Hugh Frederick Wilkins (1916-2004) يعمل في الكلية الملكية بلندن على تصوير الحمض النووي DNA بالأشعة السينية منذ عام 1948 بالتعاون مع الباحث الشاب ريموند غوسلينغ Raymond Gosling (1926-2015).

على الرغم من أنّ ويلكينز كان فيزيائياً، إلا أنه كان مهتماً بتطبيق الطرق الفيزيائية في دراسة المواد العضوية، ويُعتَبر من الرواد المؤسسين لعِلم الفيزياء الحيوية Biophysics. درس ويلكينز تركيب الحموض النووية بتصوير انحراف الأشعة السينية على جزيئاتها. ولمْ تكن صورُهُ واضحة حتى حصل على عينات جيدة لحمض DNA من السويسري رودولف سيغنر Rudolf Signer (1903-1990) أستاذ الكيمياء العضوية بجامعة برن آنذاك.

استخدم ويلكينز وغوسلينغ أدوات بسيطة لتصوير العينات الجديدة من الحمض النووي DNA بالأشعة السينية، وأَظهرتْ الصور الأولية سنة 1950 نمطاً منتظماً في تركيبه يشبه انتظام اصطفاف الذرّات في بلّورات المواد المعدنية والأملاح. قَدَّم ويلكينز وغوسلينغ صورهم الأولية هذه في مؤتمر علمي عُقد في مدينة نابولي بإيطاليا سنة 1951. كان بين الحاضرين عالِم أحياء أمريكي شاب يبحث في دراسة المادة الوراثية محاولاً الإجابة على السؤال الذي كان يدور في أروقة البحث في عِلم الوراثة: ماهي المادة التي تنقل الصفات الوراثية بين الأجيال؟ هل هي البروتينات أم الحموض النووية؟ وعندما استمع إلى محاضرة ويلكينز وشاهد صور الأشعة السينية للحمض النووي DNA كتَبَ جيمس واطسن James Watson (1928) قائلاً: " فجأة شعرتُ بأهمية دراسة الكيمياء... وتساءلتُ فيما إذا كنتُ سأتمكن مِنَ الانضمام إلى ويلكينز في دراسة حمض DNA ".

باحثة قوية جديدة

في أواخر سنة 1951، انضمتْ إلى الكلية الملكية بلندن باحثة شابة قوية الشخصية ماهرة بشكل خاص في استخدام الأشعة السينية للتعرف على التركيب الكيميائي للمواد. جاءتْ البريطانية روزاليند إلزي فرانكلين Rosalind Elsie Franklin (1920-1958) قادمةً مِنَ المركز القومي للبحث العلمي في باريس حيث كانت تعمل على دراسة التركيب الكيميائي للفحم بطريقة تصوير انحراف الأشعة السينية على بلوراته، وأصبحتْ مِنْ أبرع الباحثين في هذا المجال.

كلَّفها راندال مدير مختبرات الكيمياء الحيوية في الكلية الملكية بتطبيق هذه الطريقة لدراسة حمض DNA بدلاً مِنْ دراسة البروتينات. استخدَمتْ روزاليند أدوات التصوير المتقدمة التي طَلَبها ويلكينز، ومستحضرات الحمض النووي التي أُرسِلتْ إليهم مِنَ البروفسور سيغنر في سويسرا، كما انتقَلَ الباحث غوسلينغ لمتابعة تحضير رسالته في الدكتوراه معها في المختبر. تابعتْ عملها باعتبار أنّ تصوير الحمض النووي DNA هو مهمّتها في الكلية الملكية، بينما كان تَصَوّر ويلكينز أنّ ذلك المشروع مازال عائداً له. أدتْ قرارات المدير راندل غير الواضحة في تحديد المسؤوليات إلى حدوث جفوة بين ويلكينز وروزاليند.

الصورة 51

انتهى غوسلينغ من تحضير عينة الحمض النووي DNA، وجهَّز أدوات التصوير والفيلم الخاص الذي يُستخدم فيها، ثم قام بتصوير انحراف الأشعة السينية على جزيئات هذه المادة الغريبة. كان يحضِّر رسالته لنيل شهادة الدكتوراه في الفيزياء تحت إشراف الباحثة روزاليند فرانكلين في الكلية الملكية بلندن. كان الجو ربيعياً لطيفاً في يوم من أيام شهر مارس 1952 في لندن. وبعد انتظار ساعات عديدة قضاها في التصوير والتحميض، ظَهرت الصورة الجديدة، وما إن رآها غوسلينغ حتى أدرك أنها أكثر الصور وضوحاً، وأَطلَق عليها اسم" الصورة 51".

 

 

الصورة 51 للحمض النووي DNA التي حصل عليها ريموند غوسلينغ وروزاليند فرانكلين في الكلية الملكية بلندن في مارس 1952 والتي وضَّحَت الشكل اللولبي المنتظم في تركيب هذا الحمض النووي. كانت هذه الصورة سبباً رئيسياً في التوصل إلى معرفة التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA

 

قدَّمَتْ روزاليند فرانكلين محاضرة في نوفمبر 1951 عن نتائج أبحاثها وتصوراتها عن التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA. كان الباحث الشاب واطسون بين الحضور، ولكنه لم يدرك آنذاك أهمية أبحاثها ودلالة الصور التي عرضتها، إلا أنها أثارت فضوله لدراسة تركيب الحمض النووي DNA ومحاولة صنع نموذج لبنيته الكيميائية.

قام واطسون مع زميله كريك في جامعة كامبردج بصنع نموذج لهذا الحمض النووي أواخر سنة 1951 كما تصورا تركيبه الكيميائي في ذلك الحين، وكان ذلك النموذج بشكل لولب ثلاثي. دُعي بعض الباحثين من الكلية الملكية لرؤية ذلك النموذج، وكانت روزاليند فرانكلين بينهم. ولكنها ما إنْ شاهدت النموذج حتى انفجرتْ ضاحكة، وتهكمتْ قائلة إنّ ذلك النموذج لا يمكن أنْ يكون صحيحاً، ولا يتوافق مع الدراسات والمعلومات وصور الأشعة السينية لهذا الحمض.

صراحةُ روزاليند وعادتها في النظر مباشرة إلى عيون مَن تتحدث إليهم، وطريقتها المختصرة المباشرة في الحديث، كانت تثير فيمَن حولها مشاعر الاستياء وعدم الارتياح. وربما يرجع ذلك أيضاً إلى كونِها امرأة قوية في عالَم البحث ومختبرات الفيزياء والكيمياء والأحياء الذي سيطر عليه الرجال آنذاك.

روزاليند إلزي فرانكلين Rosalind Elsie Franklin (1920-1958) ساعدت أبحاثها في تصوير انحراف الأشعة السينية على التوصل إلى التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA

 

على الرغم من أنّ الباحثِين في مختبرات الكلية الملكية بلندن كانوا سبّاقين في الحصول على أوضح الصور للتركيب الكيميائي للحمض النووي DNA إلا أنهم لمْ يكونوا أول مَنْ تَوصَّل إلى معرفة تفاصيل ذلك التركيب، ربما بسبب الخلافات الشخصية التي حدثتْ بينهم نتيجة القرارات الإدارية غير الحكيمة لمدير المختبر جون راندال، أو بسبب الشخصية الحادة لروزاليند فرانكلين مقابل الخجل والانعزالية التي رويَتْ عن موريس ويلكينز.

المهم هو أنّ روزاليند طلبتْ نقلها إلى كلية بيركبيك Birkbeck College للبحوث العليا في جامعة لندن، وافق راندال على استقالتها، وطَلَبَ منها تسليم كافة نتائج دراساتها للحموض النووية إلى مختبر الكلية الملكية. أما الفوز في سباق الوصول إلى التركيب الكيميائي للحمض النووي DNA فقد كان مِنْ حظ باحثَين شابَين في جامعة كامبردج هما فرنسيس كريك وجيمس واطسون

 

المصدر:

كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني

 

آخر تعديل بتاريخ
30 مارس 2023
Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.