في 9 يونيو 2023، تكررت ادعاءات في وسائل التواصل الاجتماعي بأن اللقاحات من نوع mRNA ضد فيروس كورونا الجديد، مثل لقاح فايزر ومودرنا، تسبب زيادة مهمة في التهاب عضلة القلب، خاصة عند الشباب، وأن ذلك ربما يؤدي ذلك إلى زيادة في حدوث الجلطة القلبية، وضعف عضلة القلب، وغيرها من الاختلاطات الوعائية بعد أخذ اللقاح. استندَت هذه الادعاءات إلى بحثٍ نُشر في المجلة العلمية الأمريكية المعتمدة Circulation قبل أقل من سنتَين في 8 نوفمبر 2021. فهل هذا الادعاءات صحيحة؟
ما هو المصدر الأصلي لهذه التصريحات؟
في غمرة جائحة كورونا العالمية، وما سبَّبته من مصاعب صحية واجتماعية واقتصادية وسياسية، حدثَ سباق عالمي جامح لنشر أحدث الأخبار عن انتشار الجائحة، وعن فيروس كورونا الجديد الذي سبَّبها. أثَّرت هذه الحُمى في سباق نشر الأخبار حتى على بعض المجلات العلمية المحترمة والموثوقة، فسارعت بعضها لنشر أبحاث ونتائج دراسات لم يتم التحقق منها جيدًا مثلما كانت تدقّق في النشر قبل الجائحة.
تراجَعت بعض المجلات العلمية المعتمدة عن حوالي 143 بَحثًا تم نشرها من قَبل، أو نَشرت لها ملاحق وتصحيحات، بل وتم سحب بعضها نهائياً من سجلّ النشر، مثل المقالة التي نُشرت عن نجاح علاج مرض كوفيد-19 لدى أكثر من ألف مريض في مصر باستخدام دواء أيفرمكتين Ivermectin، واتضَح فيما بعد أن بيانات تلك الدراسة كانت غير حقيقية، وتم سَحب الدراسة تمامًا.
نَشرت مجلة Circulation بالفعل في 8 يونيو 2021 بَحثًا تحت عنوان "تنبيه: سبَّبت لقاحات mRNA ضد مرض كوفيد حدوث ارتفاع مهم في مؤشرات التهاب بطانة الأوعية الدموية، وزيادة كبيرة في احتمال حدوث أزمات قلبية حادة حسب مقياس PLUS لاختبار احتمال حدوث أمراض القلب"، إلا أن الجمعية الأمريكية لأمراض القلب التي تُشرف على مجلة Circulation نَشرت في الشهر نفسه رسالة عبّرت فيها عن قلقها بشأن تلك الدراسة، ثم نَشرت في المجلة ذاتها بتاريخ 21 ديسمبر 2021 ملاحظةَ تصحيح سردَت فيها تغييرات عديدة في الدراسة المنشورة سابقًا، شملت تغيير عنوانها، وتصحيحاً لنتائجها، وتم تدقيق وتصحيح ثمان جُمَل فيها. كان العنوان المقبول الجديد: "ملاحظات حول نتائج قياس PLUS لاختبار احتمال حدوث أمراض القلب لمؤشرات التهاب بطانة الأوعية الدموية عند المرضى الذين أخذوا لقاحات mRNA"، وذكَرت التصحيحات أن ملاحظات الدراسة لا تعكس وجود علاقة سببيّة بين أخذ اللقاح وارتفاع مؤشرات الالتهاب، كما تم تصحيح استنتاجات الدراسة بأن الزيادة المسجَّلة في بعض مؤشرات الالتهاب "لم تتم دراستها إحصائياً"، وتم حذف اللغة التي صرَّح بها كتّاب المقالة بأن اللقاحات قد سبّبت زيادة الالتهاب.
هل أشارت تصريحات وسائل التواصل الاجتماعي إلى التصحيحات التي تمّت على الدراسات الأصلية؟
لم تُشر هذه التصريحات بالطبع إلى التصحيحات المتتالية التي نُشرت في المجلة العلمية نفسها، وإلى التعديلات الجَذرية التي أُجريت على الدراسة الأصلية. كما أنها لم تُشر إلى أبحاث عديدة نُشرت فيما بعد، وركَّزت على بحث تأثير هذه اللقاحات على القلب. أشارت تلك الأبحاث إلى وجود زيادة طفيفة في حالات التهاب عضلة القلب بعد أخذ هذه اللقاحات، خاصة عند الشباب، إلا أن احتمال حدوث التهاب عضلة القلب بعد الإصابة بمرض كوفيد-19 كان أعلى بنحو عشر مرات من احتمال حدوث التهاب عضلة القلب بعد أخذ هذه اللقاحات.
مشكلة نشر الأخبار الصحية في وسائل التواصل الاجتماعي
هذه المقالة مِثال عن التجاوزات العلمية التي تَرِد في كثير من الأخبار الصحية في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام بشكل عام، لأن هذه المنصات لا تخضع للمراجعة والتدقيق والإشراف عليها من جهةٍ علمية موثوقة، مثل الجمعية الأمريكية لأمراض القلب، وغيرها من الجمعيات والهيئات المعتمدة التي تدقّق نَشر الأبحاث والدراسات العلمية في مجالاتها. وعلى الرغم من تدقيق هذه المجلات الموثوقة، فقد وجَدت بعض الدراسات الخاطئة طريقها للنشر، واضطرت المجلات بعد مزيد من التدقيق إلى تصحيح، أو تعديل، أو سَحب بعض الدراسات من النشر، فكيف بما يُنشَر في وسائل التواصل الاجتماعي دون أي تدقيق أو تمحيص؟!
كما لا تشير منشورات وسائل التواصل الاجتماعي إلى تصحيحات أو تعديلات أو حذف قد تقوم بها المجلات العلمية في بعض منشوراتها، بل تشير فقط إلى النص الأصلي، وتتجاهل التصحيحات والتعديلات التي تمت عليه. تخلق هذه الأعمال نوعًا من التضليل المقصود أو غير المقصود لدى المتصفح العام، ولا تعطيه الحقائق كاملة، بل مجتزأة، مما قد يسبب تكوين آراء خاطئة لدى المتصفح العام، لأنها آراء مبنية على معلومات ناقصة. وقد تسبب مثل هذه الآراء ضررًا، إذ قد تدفع الناس لاتخاذ قرارات قد تضر صحتهم، مثل امتناعهم عن أخذ اللقاحات خوفًا من أنها قد تسبب أضرارًا صحية، بينما كان اكتشاف اللقاحات في الواقع سبب نجاح البشرية في التغلب على كثير من الأوبئة والأمراض الخطيرة، مثل الجدري وشلل الأطفال والحصبة والإنفلونزا والسل والسعال الديكي والتيتانوس ... التي كانت تؤدي في الماضي إلى وفاة ملايين البشر.
المصادر:
https://www.ahajournals.org/doi/10.1161/circ.144.suppl_1.10712
https://www.ahajournals.org/doi/10.1161/CIR.0000000000001053
https://www.ahajournals.org/doi/10.1161/CIR.0000000000001051