تعلَّمنا كثيراً عن المَناعة في دراسة مرض الإيدز

اقتَحم عالَمنا مرض نقص المَناعة المُكْتَسَب (الإيدز) بشكل وحشي مفاجئ ومخيف. نُشِرتْ مقالة مقتضبة في الثالث من يونيو سنة 1981 في المجلة العلمية الأمريكية MMWR وأَحدَثَتْ ضجة عالمية. تَصدُر هذه المجلة عن المركز الأمريكي لمراقبة الأمراض CDC كل أسبوع، وقد جاء في ذلك التقرير تشخيص ست وعشرين إصابة بنوع نادر من سرطان الجِلد يسمى سرطان كابوسي Kaposi Sarcoma خلال ثلاثين شهراً في أمريكا.

كان جميع هؤلاء المرضى من الرجال المِثليين جنسياً، وكان عشرون منهم من مدينة نيويورك، وستة من سان فرانسيسكو. كان متوسط أعمارهم 39 سنة. والغريب أنّ ثمانية منهم توفوا بعد أقل من سنتَين على تشخيص إصابتهم بهذا المرض، ولوحِظتْ كثرة تعرضهم لالتهابات جرثومية وفيروسية نادرة الحدوث بشكل عام أيضاً.

تتالتْ بعد ذلك تقارير طبية مخيفة عن انتشار هذا المرض وارتفاع نسبة حدوث الالتهابات الجرثومية والفيروسية القاتلة عند المصابين. وتتالى وَصف الأعراض التي تُصيب هؤلاء المرضى، مثل فقد الشهية ونقص الوزن والإسهال والالتهابات الشديدة والوفاة المبكرة. شكَّلَ المركز الأمريكي لمراقبة الأمراض لجنةً خاصة بمتابعة انتشار هذا المرض. لم يكن لديهم اسم محدَّد له في البداية، وفي يوليو سنة 1982 اتفق العلماء على تسميته مرض الإيدز Immune Deficiency Syndrome (AIDS) Acquired، أي مرض نقص المناعة المكتسب. لم يُكتشَف سبب هذا المرض حتى عام 1983، وكانت وراء ذلك الاكتشاف قصة خلاف عِلمي كبير بين فرنسا وأمريكا.

مَن كان السَّبَّاق إلى اكتشاف الفيروس الخطير؟

كان السِّباق لاكتشاف الفيروس الذي يسبب مرض الإيدز محموماً وعاصفاً. انطلق البحث ذات يوم من أيام سنة 1982 عندما طَلَبَ الطبيب الفرنسي ويلي روزنباوم Willy Rozenbaum (1945) من زملائه في معهد باستور مساعدته في اكتشاف الفيروس الذي يسبب مرضاً جديداً غامضاً كان يسمى آنذاك مرض نقص المناعة عند المِثلِيين جنسياً.

قام الباحث لوك أنطوان مونتانييه Luc Antoine Montagnier (1932) مع زملائه من الباحثين الخبراء في دراسة الفيروسات بإجراء أبحاث عن الفيروس الذي يكمن وراء حدوث هذا المرض. اكتشفوا وجود فيروس جديد في عَيِّنَات أُخِذتْ من مريض الطبيب روزنباوم. ونَشروا نتائجهم في المجلة العلمية Science سنة 1983. وبحذر عِلمي، سَجَّلوا وجود هذا الفيروس في المريض المُصاب بمرض الإيدز، ولكنهم لمْ يكونوا متأكدين مِنْ أنّ هذا الفيروس هو الذي يسبب المرض.

فريق آخر في أمريكا

 خلال تلك الفترة نفسها، كان فريق آخر من العلماء برئاسة الباحث الأمريكي روبرت تشارلز غالو Robert Charles Gallo (1937) يقوم بدراسة نوع مشابه من الفيروسات. ونَشروا عن اكتشافهم فيروساً مماثلاً لفيروس معهد باستور في العدد نفسه من مجلة Science، ثم أَثبتوا في مقالات لاحقة سنة 1984 أنّ هذا الفيروس هو الذي يسبب مرض الإيدز. أدى تزامن مَركَزَي الأبحاث في فرنسا وأمريكا في اكتشاف هذا الفيروس إلى حدوث خلاف حاد حول الأسبقية في تحقيق هذا الإنجاز العِلمي، خاصة لأنّ الفريق الأمريكي قام بتسجيل طريقة كشف الفيروس، واستثمرها بشكل تجاري.

استمَرَّ الخلاف العلمي والاقتصادي بشكل حاد عدة سنوات، حتى اضطرت المؤسسة الأمريكية للصحة ومكتب النزاهة العلمية إلى تشكيل لجنة خاصة للنظر في هذه المشكلة. وبعد سنوات من الاستقصاء والمتابعة وتحليل العَيِّنات التي تمّ تبادلها بين المؤسستين الفرنسية والأمريكية في الفترة 1983-1985، نَشَرَت اللجنة تقريرها في مجلة Nature سنة 1993، وتوصَّلَت لإثبات أنّ فريق مونتانييه قد أرسل عَيِّنَة من مريضٍ مصاب بالإيدز إلى فريق غالو بناءً على طلبهم، ولكن العَيِّنَة كانت ملوَّثَة عن طريق الخطأ بفيروسَين، وكان فيروس الإيدز أحدهما. وكان هذا الفيروس الذي أُرسِل خطأً، هو الفيروس الذي اكتشفه فريق غالو، وأَثبتوا أنه هو الفيروس الذي يسبب مرض الإيدز. وهكذا تَبَيَّن أنّ فريق مونتانييه هو الذي اكتَشَف فيروس الإيدز أولاً، ولكن فريق غالو هو الذي اكتَشَف العلاقة السَّببية بين هذا الفيروس ومرض الإيدز.

وتَدَخَّلَ الرؤساء

تمّ حَلُّ الخلاف العِلمي، ولكن لمْ تنته مشكلة حق استثمار طريقة التحليل التي تكشف وجود فيروس مرض الإيدز. وفي سنة 1987 اتفَقَت الحكومتان الفرنسية والأمريكية على اقتسام أرباح هذه الطريقة في التحليل مناصَفة بين الفريقَين، إلا أنهما لمْ يوافِقا على ذلك، واستمر الخلاف الحاد بينهما. ولمْ تُحَل المشكلة إلا بعد تَدَخُّل رؤساء الدولتَين عندما اجتمع الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ووافق الفريقان على اشتراك مونتانييه وغالو في شرف اكتشاف فيروس الإيدز، واتفقوا على اسم علمي جديد لهذا الفيروس، وأنّ الفيروس الذي وَصَفَه فريق غالو هو ذات الفيروس الذي أَرسَلَه فريق مونتانييه من معهد باستور إلى أمريكا، وأنّ فريق غالو قد طَوَّرَ طرق البحث التي أدتْ لإثبات أنّ هذا الفيروس هو الذي يسبب مرض الإيدز.

عاد الفريقان إلى التعاون العلمي بينهما، ونَشَر مونتانييه وغالو عدة أبحاث علمية، وفي سنة 2002 نَشَرا معاً بحثاً علمياً في مجلة Science قَدَّرَ كلٌّ منهما دَوْرَ الآخر في اكتشاف سبب هذا المرض اللعين.

مفاجأة في جائزة نوبل

فوجئ العلماء في سنة 2008 بمَنح جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب إلى لوك أنطوان مونتانييه وزميلته في معهد باستور العالِمة فرانسواز بارى-سينوسي Françoise Barré-Sinoussi (1947) تقديراً لجهودهما في اكتشاف فيروس الإيدز. واستَبعدت لجنة نوبل العالِم غالو عن هذه الجائزة. أَعرَبَ غالو عن شعوره بخيبة الأمل لأنه لمْ يُمنَح شرف المشاركة بهذه الجائزة، كما عبَّر مونتانييه عن دهشته وأسفه لعدم مَنْح غالو هذه الجائزة أيضاً.

الباحث الفرنسي لوك أنطوان مونتانييه Luc Antoine Montagnier (1932) الذي حَصَل على جائزة نوبل سنة 2008 تقديراً لجهوده في اكتشاف فيروس مرض الإيدز

العالمة الفرنسية فرانسواز بارى-سينوسي Françoise Barré-Sinoussi (1947) التي حَصَلت على جائزة نوبل سنة 2008 تقديراً لجهودها في اكتشاف فيروس مرض الإيدز

الباحث الأمريكي روبرت تشارلز غالو Robert Charles Gallo (1937) الذي ساهم في اكتشاف فيروس مرض الإيدز ولكنه لم يُمنَح جائزة نوبل

المصدر:

كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني