في سنة 1924، نشر العالِم الروسي ألكساندر إيفانوفيتش أوبارين Alexpander Ivanonich Oparin (1894-1980) فرضيته عن نشوء الحياة على كوكب الأرض. افترضَ أوبارين أنّ تفاعل عناصر ومواد أولية بسيطة في ظروفٍ افترضَ وجودها منذ بلايين السنين أدى إلى تكوين المواد العضوية الأولى، التي تفاعلت مع بعضها وشكَّلَت المواد اللازمة للحياة مثل البروتينات والسكريات والدهنيات والحموض النووية ... ومِنْ ثمّ نشأت الخليّة الحية، وبدأت الحياة. أثارتْ هذه الأفكار كثيراً من التساؤلات والاعتراضات الدينية والأخلاقية، ولكنها أثارتْ أيضاً كثيراً من الفضول والرغبة العارمة بمزيد من الاطلاع والمعرفة.
هناك أدلة علمية تشير إلى وجود الحياة على الأرض منذ 3.7 بليون سنة ضمن صخور وجِدَتْ في غرينلاند. واكتُشِفتْ أدلة أيضاً على وجود الحياة منذ 3.5 بليون سنة داخل صخور رملية في أستراليا. ولكن لمْ يَتوصل العلماء إلى أدلة علمية تجريبية تؤيد أو تنفي احتمال نشأة الحياة من عناصر ومواد غير حيّة حتى نجح الكيميائي الأمريكي ستانلي لويد ميللر Stanley Loyd Miller (1930-2007) سنة 1953 تحت إشراف هارولد كليتون يوري Harold Clayton Urey (1893-1981) في تجربتهما الشهيرة.
تجربة ميللر ويوري
قام ميللر ويوري باختبار فرضية أوبارين عن نشأة الحياة من مواد غير حية ضمن الظروف الطبيعية التي سادت الأرض منذ أربع بلايين سنة. بدأتْ تلك التجربة التاريخية سنة 1952 في جامعة شيكاغو وانتهتْ في مخابر جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. وَضَعَ ميللر ويوري مزيجاً من مواد بسيطة مثل الماء والهيدروجين وغاز الميثان والأمونيا، وتمّ تَسخين هذا المزيج وتَمريره في دورات مستمرة تَعرَّضَ خلالها لصواعق متتالية من التيار الكهربائي بما يشبه البَرق في جوّ الأرض كما افتُرِضَتْ حالتها منذ بلايين السنين. وبعد حوالي أسبوع، تَشَكَّلتْ بالفعل في أوعية التجربة بعض الحموض الأمينية والمواد العضوية التي توجد عادة في الكائنات الحية. كَرَّر بعض العلماء هذه التجربة مع بعض التغييرات في المواد التي استخدموها، وظروف التجربة التي طَبَّقوها، وحَصلوا على مواد أخرى كان أهمها تشكّل سلاسل قصيرة من الحمض النووي RNA.
مخطط تجربة ميللر- يوري 1953
فرضيات نشوء الحياة على الأرض
وضِعَتْ فرضيات عديدة عن نشأة الحياة في كوكب الأرض استناداً إلى هذه التجارب وإلى المعارف التي جَمَعَها العلماء عن ظروف هذا الكوكب في المراحل الأولى من تكونه. كما تراكمتْ لديهم معارف جديدة لمْ تكن متوقعة، مثل اكتشاف أنواع غريبة من الجراثيم التي تستطيع العيش والتكاثر على عمق مئات الأمتار تحت الأرض، وجراثيم تستطيع تحمّل درجات عالية من الحرارة والحموضة والإشعاع، وتستطيع أنْ تحصل على الطاقة من حرارة جوف الأرض نفسها والعيش في ظلام دامس.
كما وجِدتْ بعض آثار الحياة والمواد العضوية المركّبة التي تنتج عنها في بعض النيازك التي سقطتْ على الأرض قادمة من المريخ أو من المُذَنَّبات أو من أماكن أخرى مجهولة في أعماق الفضاء. واختلف العلماء في وضع الفرضيات والتفسيرات، فمنهم مَن قال بنشوء البروتينات أولاً، نظراً لسهولة تشكّل الحموض الأمينية في تجاربهم المخبرية.
ومنهم مَن قال بضرورة نشوء الحمض النوويDNA أولاً، نظراً لقدرته الذاتية على التكاثر والتضاعف وتنظيم نقل الصفات الوراثية وصنع البروتينات. ومنهم مَن قال بضرورة نشوء الحمض النووي RNA أولاً، نظراً إلى تشكّله في التجارب المخبرية، وصغر حجمه، وقدرته على بناء سلاسل من بُنيته الكيميائية، وكذلك قدرته على مضاعفة نفسه، والأهم مِن ذلك كله، قدرته على نقل المعلومات وترجمة الأوامر الوراثية من الحمض النووي DNA إلى البروتينات.
أو ربما تشكّلت الحموض الأمينية التي تستطيع البِناء ولكنها لا تستطيع التكاثر، وتشكّلت في الوقت نفسه بعض سلاسل الحموض النووية الأولية من نوع RNA التي التَحَمتْ مع بعضها لتشكّل سلاسل أطول، واستطاعتْ مضاعفة نفسها عند توفر المواد الأولية اللازمة والظروف المناسبة. وربما تطوَّر عنها تشكّل الحمض النووي DNA الأكثر تعقيداً، ومِنْ ثَمّ حَدَثَ التكامل العجيب بين الحموض النووية والبروتينات، وبدأ تشكّل الخلايا الحيّة الأولى التي تستطيع التكاثر والانقسام. ولا بد أيضاً من وجود تفاعلات كيميائية مناسبة للحصول على الطاقة اللازمة للحياة من البيئة المحيطة بها، وتَشَكُّل نوع من الجدار أو الغلاف الذي يحمي هذه المجموعة الكيميائية التي تؤلف الخليّة الحيّة الأولى.
أمام هذه الاحتمالات الكثيرة والفرضيات المعقَّدة التي يَصعب إثباتها، هرب العالِم فرانسيس كريك وعلماء آخرون لحلّ هذه المشكلة بافتراض أنّ الحياة إنما جاءتْ إلى كوكب الأرض مِنَ الفضاء. ولكنّ السؤال يظلُّ قائماً دون إجابة: ولكنْ كيف نشأت الحياة في الفضاء أصلاً؟
الكيميائي الأمريكي ستانلي لويد ميللر Stanley Loyd Miller (1930-2007) مع تجربته الشهيرة 1953
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني