تُصور قصة إصلاح الصمام التاجي (الميترالي) مثالاً واقعياً عن صعوبة البحث العلمي في الطب، وتوضِح التوتر والقلق وآلام اللوم والإحباط التي تعرض لها الرواد الشجعان الذين عملوا بجد واجتهاد ضد كثير مِنَ العقبات والمصاعب، وعانوا كثيراً مِنَ الفشل قبل أنْ يصلوا أخيراً إلى تحقيق آمالهم وأحلامهم في الامتياز والنجاح.
خلاف في وجهات النظر
في عام 1897، بعد أقل مِنْ سنة على نَشْرِ الدكتور رين تقريره التأسيسي عن نجاح أول عملية في القلب، أُرسِلتْ مقالة إلى المجلة العلمية الطبية الشهيرة The Lancet بتوقيع هربرت ميلتون Herbert Milton الذي كان آنذاك رئيساً لمستشفى قصر العيني في القاهرة، وَصَفَ فيها طريقةً لفتح الصدر عبر عظم القص للوصول بسهولة إلى القلب، وكتب بما يشبه نبوءة معجزة: "مازالت جراحة القلب في طفولتها، ولكن لا يحتاج الأمر لكثير مِنَ التخيل حتى نتصور أنه سيكون مِنَ الممكن إصلاح صمامات القلب جراحياً ". وفي أبريل من عام 1898، كتب دانييل سامويز Daniel Samways (1857-1931) في المجلة نفسها قائلاً: " أتوقع أنه مع تقدم جراحة القلب سيكون مِنَ الممكن توسيع الصمام التاجي في بعض حالات التضيق الشديدة ".
تم إهمال هذه الملاحظات تماماً في الوسط الطبي حتى عام 1902 عندما أثار الطبيب الاسكتلندي الشهير السير لاودر برونتون Sir Lauder Brunton (1844-1916) عاصفة مِنَ الحوار الساخن على صفحات المجلات العلمية الطبية في مقالة كان عنوانها: " ملاحظات مبدئية عن إمكانية علاج تضيق الصمام التاجي بطرق جراحية ". تمتع برونتون بخبرة طويلة في التشريح، وقام بمحاولات عديدة في مختبر التشريح لتوسيع الصمام التاجي.
نَشَرتْ مجلة لانسيت The Lancet في افتتاحية عددها التالي مباشرة هذا التعليق الساخر: "نعتقد أنّ برونتون لم يبتعد كثيراً عن طاولة تشريح الموتى في مختبره عندما تقدم برسالته هذه ... ونتصور أنّ الطريقة التي اقترحها لعلاج مرض تضيق الصمام التاجي هي طريقة غير عادية، كما نعتقد أنه ربما كان على السير لاودر برونتون أنْ يقوم بإتمام تجاربه التي اقترحها بنفسه ... وأنه لم يقدر جيداً عظم مصاعب وخطورة هذه العملية الجراحية، وأنّ إجراء مثل هذه العملية الجراحية سيكون قاتلا"ً
واتباعاً لآداب الاختلاف في وجهات النظر فقد نُشر رد السير برونتون الذي قال: " إنني أدرك تماماً مدى عظم المسؤولية التي ترتبتْ على عاتقي بسبب اقتراحي هذا، ولكنني يجب أنْ أذكر أنه رغم أنّ تجاربي قد أجريتْ بالفعل على قلوب حيوانات ميتة، إلا أنّ معلوماتي عن العمليات الجراحية على القلب الحي وعلاج إصاباته بالجروح والطعنات تستند إلى أبحاث كثيرة نُشرتْ على مدى 35 سنة خلت ".
تجارب أولية
نُشرتْ بعض المحاولات الأولية المتفرقة لعلاج تضيق الصمام التاجي جراحياً في الفترة بين 1906 – 1922 مِنْ قِبل عدد من الجراحين الرواد، ولكن الحرب العالمية الأولى قَطعتْ سلسلة هذه الأبحاث الأولية، حتى جاءت سنة 1923 عندما نَشر طبيب القلب صمويل ليفين Samuel Levine (1891-1966) مع جراح الصدر إليوت كتلر Elliot Cutler (1888-1947) تقريراً عن عملية ناجحة لتوسيع الصمام التاجي في مريض بعد أنْ قاما بدراسة هذه العملية في حيوانات التجربة لمدة سنتين قبل ذلك. كانت المريضة فتاة في الثانية عشرة مِنْ عمرها، وكانت مصابة بتضيق شديد في الصمام التاجي ألزمها الفراش لمدة ستة أشهر بسبب ضعف شديد ووهن عام. أُجريتْ عملية قطع الصمام التاجي هذه في 20 مايو سنة 1923، وتم فيها قطع الصمام التاجي المتضيق بتمرير سكين جراحي خاص عبر قمة البطين الأيسر. نجحت العملية وعاشت المريضة بعدها لمدة خمس سنوات، وتوفيت بعد ذلك إثر إصابتها بالتهاب رئوي. أظهر كتلر وليفين في تقريرهما عن هذه الحالة اطلاعاً واسعاً على الأبحاث التي كانت قد نُشرتْ قبلها في هذا المجال، وكانا محقين في القول: "وفق أفضل تقديراتنا فإنّ تقريرنا عن هذه الحالة يصف الحالة الوحيدة الناجحة في العلاج الجراحي لمرض تضيق الصمام التاجي".
إليوت كتلر Elliot Cutler (1888-1947) أول من قام بعملية ناجحة لتوسيع الصمام التاجي 1923
عملية ثانية وحيدة
في عام 1925 قام الجراح السير هنري سوتار Sir Henry Souttar (1875-1964) في لندن بإجراء أول عملية توسيع للصمام التاجي بالأصبع عبر الأذينة اليسرى. كانت المريضة فتاة شابة عمرها تسعة عشر عاماً، وتمت العملية بنجاح. كتب بعدها بأكثر مِنْ عشرين سنة إلى صديق عزيز قائلاً: " أعتقد أنّ كثيراً مِنَ الفضل في هذا النجاح يعود إلى شجاعة المريضة في مواجهة هذا التحدي الكبير ... لقد عاشت بعد العملية في حالة صحية جيدة لمدة خمس سنوات، ولكن للأسف فقد حدثت لها جلطة دماغية ... وتوفيت ... وبالطبع، لم أتمكن بعدها مِنْ إجراء عملية مماثلة، ففي تلك الأيام كان مجرد فتح الصدر يعتبر مغامرة محفوفة بالخطر ". وفي عام 1961، عندما سأله دوايت هاركن عن سبب عدم قيامه بعمليات مماثلة، أجاب سوتار قائلاً: " لم أكرر هذه العملية لأن زملائي مِنْ أطباء القلب لم يحيلوا إليّ أية حالة أخرى. ورغم أنّ العملية قد نجحت، وأنّ المريضة قد شُفيتْ بعد فترة نقاهة سليمة، إلا أنّ الأطباء صرحوا أنّ ما فعلتُه كان مجازفة، وأنّ العملية التي أجريتُها لم تكن لازمة. يبدو أنه لا فائدة مِنْ أنْ يكون المرء سابقاً لزمانه ".
أثناء ذلك الوقت، تابع فريق كتلر في بوسطن محاولاتهم في التوسيع الجراحي للصمام التاجي، وفي الفترة بين 1923-1929 قام هذا الفريق بإجراء 6 عمليات قطع للصمام التاجي، ولكن كل هذه العمليات انتهت بوفاة المريض باستثناء حالتهم الأولى! ولم تزد تجربة العالم بأسره آنذاك في هذا المجال عن عشر عمليات، توفي فيها جميع المرضى ماعدا مريضة كتلر في 1923، ومريضة سوتار في 1925.
السير هنري سوتار Sir Henry Souttar (1875-1964) قام بإجراء أول عملية توسيع للصمام التاجي بالأصبع عبر الأذينة اليسرى سنة 1925 في لندن
رسم توضيحي لعملية سوتار لتوسيع تضيق الصمام التاجي بأصبع يده اليمنى عبر الأذينة اليسرى للقلب
آلام النجاح
على الرغم من أنّ الحرب العالمية الثانية قد أدّتْ إلى توقف الأبحاث العلمية لرواد جراحة القلب، إلا أنها أتاحت الفرصة للجراح الشاب دوايت هاركن Dwight Harken (1910-1993) الذي كان رئيس مركز جراحة الصدر في المستشفى العسكري العام رقم 160 للجيش الأمريكي المتمركز في انكلترا. قام هاركن مع فريقه المتميز بإجراء 134 عملية إخراج طلقات وشظايا معدنية مِنْ منطقة القلب بنجاح باهر إذ لم يتوفى لديهم أي مريض. نشر هاركن تقريراً عن هذه العمليات سنة 1945، ويُعتبر هذا التقرير أول سلسلة ناجحة مِنْ عمليات القلب في التاريخ. أرجع هاركن هذا النجاح إلى التحضير الجيد قبل العملية، والتخدير العام باستخدام أنبوب الرغامى، ومهارة الفريق الجراحي، ونقل الدم بأمان وحذر، والعناية الدقيقة والمشددة للمرضى بعد العملية مع استعمال البنيسللين والعلاج الفيزيائي النشيط والمكثف.
دوايت هاركن Dwight Harken (1910-1993)
بعد الحرب، عاد الاهتمام بالعلاج الجراحي لتضيق الصمام التاجي، وحدثت تطورات مهمة ناجحة في سنة 1948 التي كانت حاسمة في هذا المجال.
المصدر:
كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني